ما الفرق بين الاستثمار التجاري والميسر وكلاهما يتضمن المخاطرة بالمال؟

السؤال: 477074

أليس الميسر هو نفسه في الاستثمار التجاري أيضا؟ حيث يمكنني استثمار الأموال والحصول على بعض الأرباح أو الخسائر بناء على أداء العمل، أرني الفرق بين المَيسِر والاستثمار التجاري على أساس الإسلام.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

تشترك التجارة مع الميسر -ظاهريا -في قيامها على المخاطرة، ودورانها بين الغنم والغرم، فكلٌّ من التاجر والمقامر قد يخسر وقد يربح.

إلا أن بينهما ثلاثة فروق جوهرية، وهي:

الأول: من جهة المقصد.

التجارة قائمة على تبادل المنافع الحقيقية؛ فالمشتري ينتفع بالسلعة، والبائع ينتفع بالثمن، والمصلحة المتحققة للطرفين هي المقصود الأصلي.

أما الميسر فليس فيه منفعة حقيقية متبادلة، وإنما يقوم على المغالبة.

مثال ذلك: في التجارة يشتري التاجر بضاعة ليبيعها، فيستفيد المشتري بالسلعة، والبائع بالثمن، بينما في الميسر يدفع شخص مالًا، مقابل بطاقة لا قيمة لها، أو رمية نرد ليست بشيء، فإن ربح أخذ مال الآخرين بلا مقابل حقيقي، وإن خسر ضاع ماله بلا عوض.

الثاني: من جهة طبيعة المخاطرة.

المخاطرة في التجارة عرضية، غير مقصودة لذاتها، وإنما تنشأ من تقلُّب الأسواق وظروف البيع والشراء.

وأما في الميسر فأصل قيامه على المخاطرة، والمخاطرة فيه حتمية لا مناص منها؛ لأنه قائم على ربح أحد الطرفين مقابل خسارة الآخر ولا بُدَّ، مما يعني أنَّ التعاقد مبنيٌّ أساسًا على الخطر، فما يربحه أحدُ المتعاقدَين هو عين ما يخسره الآخر.

وهذا يخلّ بمبدأ العدل والتكافؤ بين الغُنم والغُرم، ويعطّل مقصد الشريعة من إباحة المبادلات المالية، فبدلاً من انتفاع الطرفَين أو أحدهما من المبادلة، يصبح هناك تناقض وتنافر بين مصالح المتبادِلَين، وهذا يفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل، المُفضي بدوره إلى حصول النزاع والخصومة والشحناء بين المتعاقدين.

ولذا منعت الشريعة من البيوع والتجارات التي فيها تعليق الملك بالمخاطرة كما هو الحال في عقود الغرر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

"والمخاطرة مخاطرتان:

مخاطرة التجارة: أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك.

والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل، فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله، مثل بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين وبيع الثمار قبل بدو صلاحها.

ومن هذا النوع يكون أحدهما قد قَمَر الآخر وظلمه، ويتظلم أحدهما من الآخر، بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة، ثم بعد هذا نقص سعرها، فهذا من الله سبحانه ليس لأحد فيه حيلة، ولا يتظلم مثل هذا من البائع، "، انتهى من "الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية لدى تلاميذه" (ص 405)، ومثله في "جامع المسائل" (8/328)، و"زاد المعاد" (6/ 507)

الثالث: من جهة الآثار والمآلات.

فإن التجارة فيها تحقيق للمصالح والمنافع المشتركة، بينما الميسر يشتمل على مفاسد شرعية واجتماعية كثيرة.

وقد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وهي: إيقاع العداوة بين الناس، ونشر البغضاء بينهم، والصد عن ذكر الله، والإلهاء عن الصلاة، فقال سبحانه وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .

ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأعظم الفساد في تحريم الخمر والميسر: إفساد القلب الذي هو ملك البدن: أن يُصّدَّ عمَّا خُلق له من ذكر الله والصلاة، ويدخل فيما يفسد من التعادي والتباغض". انتهى من "مجموع الفتاوى" (32/231)

وقال: "إن تحريمَ ‌الميسرِ ‌مثلُ ‌تحريمِ ‌الخمرِ؛ لاشتمالِه على الصدِّ عن ذكرِ اللهِ، وعن الصَّلاةِ، وإلقاء العداوةَ والبغضاءَ، ومنعِه عن الصلاحِ الذي يحبُّه اللهُ ورسولُه، وإيقاعِه في الفسادِ الذي يبغِضُه اللهُ ورسولُه، واللعبُ بذلك يلهي القلبَ ويشغَلُه، ويُغيِّبُ عن مصالحِه أكثرَ مما يفعلُ الخمرُ، ففيها ما في الخمرِ ويبقى صاحبُها عاكفًا كعكوف شاربِ الخمرِ على خمرِه وأشدَّ، وكلاهما مُشبَّهٌ بالعكوفِ على الأصنامِ... وإذا كان ثَمَّ مالٌ تضمَّنَ أيضًا أكلَ المالِ بالباطلِ، فيكونُ حرامًا من وجهين". انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" (2/ 365 ط ركائز).

وهذه المفاسد والعلل المذكورة مما يختص بها الميسر دون سائر أنواع التجارات، ولذا فلا مجال للمقارنة بينهما أو طلب الفرق بينهما.

قال ابن عاشور: "والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء، ومن إضاعة الوقت، والاعتياد بالكسل والبطالة، واللهو، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن التفقه في الدين، وعن ‌التجارة ونحوها مما به قوام المدنية، وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة". انتهى من "التحرير والتنوير" (2/ 349)

وسبق بيان بعض مفاسد القمار والميسر في جواب السؤال: (4013).

ويكفي المؤمن، لكي يمتثل للشرع في ذلك: أن يعلم أن الله جل جلاله قد حرم هذا، بعمله وحكمته ورحمته، وأحل هذا بعلمه وحكمته ورحمته، ولو لم يعلم وجوه الفرق بين الأمرين على جهة التفصيل؛ فإنه يسلم لأمر ربه، وينقاد له. كما قال في شأن الربا: ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ [البقرة: 275].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص من جنس قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا ‌وأحل ‌الله ‌البيع ‌وحرم ‌الربا" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (19/ 287).

وقال الشيخ السعدي، رحمه الله: "«وأحل الله البيع أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع وحرم الربا لما فيه من الظلم وسوء العاقبة» انتهى، من "تفسير السعدي " (117).

والخلاصة:

أن الاستثمار التجاري المشروع يختلف جذريًا عن الميسر؛ إذ يقوم على تبادل المنافع وتحقيق مصالح الطرفين، بينما الميسر قائم على المغالبة والربح لأحدهما بخسارة الآخر، مع ما يشتمل عليه من مفاسد شرعية واجتماعية، فلا يصح تشبيه أحدهما بالآخر.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android