125

ما المقصود من تثبيت المؤمن على القول الثابت في الحياة الدنيا؟

السؤال: 607638

هل آية (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إبراهيم: 27 ، تفيد ثبات المؤمن على الدين حتى الممات؟

ملخص الجواب

نعم تفيد الآية ثباته على الدين حتى الممات وعند الممات، وعند فتنة القبر عند سؤال الملكين.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولاً:

حكى الإمام الطبري، رحمه الله: اختلاف أهل التأويل في المراد بـ"الحياة الدنيا" في الآية الكريمة.

قال الإمام الطبري رحمه الله: " القول في تأويل قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ‌بِالْقَوْلِ ‌الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم/27].

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (يثبت الله الذين آمنوا) ، يحقق الله أعمالَهم وإيمانهم. (‌بالقول ‌الثابت)، يقول: بالقول الحق، وهو فيما قيل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله.

وأما قوله: (في الحياة الدنيا) ، فإن أهل التأويل اختلفُوا فيه، فقال بعضهم: عنى بذلك أن اللهَ يثَبتهم في قبورهم قبلَ قيام الساعة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب سَلْم بنُ جُنَادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سَعْد بن عُبَيْدَة، عن البَراء بن عازب، في قوله: (يثبت الله الذين آمنوا ‌بالقول ‌الثابت في الحياة الدنيا) ، قال: التثبيت في الحياة الدنيا إذا أتاه المَلكان في القبر فقالا له: مَن ربك؟ فقال: ربّي الله. فقالا له: ما دينك؟ قال: دينيَ الإسلام. فقالا له: مَن نبيك؟ قال: نبيِّي محمدٌ صلى الله عليه وسلم. فذلك التثبيت في الحياة الدنيا".

ثم روى روايات كثيرة عن السلف الصالح في تقرير هذا القول. وهو قول أكثر السلف.

ثم قال: " وقال آخرون: معنى ذلك: يثبت الله الذين آمنوا بالإيمان في الحياة الدنيا، وهو "القول الثابت" = "وفي الآخرة"، المسألةُ في القبر.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) ، قال: لا إله إلا الله= (وفي الآخرة) ، المسألة في القبر.

20785 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) ، أما " الحياة الدنيا" فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وقوله (وفي الآخرة) ، أي في القبر".

واختار الإمام الطبري هذا القول الثاني؛ وأن المراد بـ"الحياة الدنيا": تثبيت الله للمؤمنين على الإيمان والعمل الصالح، وهم في الحياة الدنيا، حتى يختم لهم بذلك.

قال: "والصواب من القول في ذلك: ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهو أن معناه: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة بمثل الذي ثبتهم به في الحياة الدنيا، وذلك في قبورهم حين يُسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم" انتهى. "تفسير الطبري" (16/589-602).

وعلى هذا القول: مشى جمع من المفسرين، وبه تصح دلالة الآية على ما ذكر في السؤال.

قال الشيخ السعدي رحمه الله في "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 425):

"(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم: 27.

يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها.

وفي الآخرة: عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي، والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت " من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: " الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي "" انتهى.

وقال العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: «ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين.

وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فلم تعترهم ندامة ولا لهف. ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يظهر فيها ثباتهم بالحق قولا وانسياقا، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها». انتهى، "تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير" (13/ 226).

ثانيًا:

لا شك أن أعظم ما ينعم الله به على عبده، وهو في الحياة الدنيا: أن يغرس الإيمان في قلبه، ويلقي محبته في فؤاده، ويهيئ له أسباب الثبات على دينه، والاستمساك بالعروة الوثقى، حتى يلقاه على ذلك.

ولأجل عظم شأن الثبات، وأن ذلك إنما هو بيد الله جل جلاله وحده، كان أكثر ما يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه: أن يثبته على دينه.

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ رواه الترمذي (2140) وابن ماجه (3834) ، وصححه الألباني.

ومن أعظم ما يثبت الله به عبده على الإيمان: أن يوفقه لعمل صالح، يزيد به إيمانه، ويثبته عليه. قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 66-70]

وقال سبحانه وتعالى أيضا: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 265]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: «والتثبيت: جعل الإنسان ثابتا لأمر .. وذلك بإلقاء ما يثبته، من التصديق بالحق والوعد بالخير. كما قال ابن مسعود: لمة الملك وعد بالخير وتصديق بالحق.

فمتى علم القلب أن ما أخبر به الرسول حق صدقه، وإذا علم أن الله قد وعده بالتصديق: وثق بوعد الله، فثبت. فهذا تثبيت بالكلام، كما يثبت الإنسانُ الإنسانَ في أمر قد اضطرب فيه، بأن يخبره بصدقه ويخبره، بما يبين له أنه منصور؛ فيثبت.

وقد يكون التثبيت بالفعل؛ بأن يمسك القلب حتى يثبت، كما يمسك الإنسانُ الإنسانَ حتى يثبت». انتهى، من "مجموع الفتاوى" (17/ 524)، بتصرف يسير.

وقال أيضا: "وقد ضرب الله مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين.

و"الكلمة": هي قضية جازمة، وعقيدة جامعة. ونبينا صلى الله عليه وسلم: أوتي فواتح الكلام، وخواتمه، وجوامعه. فبعث بالعلوم الكلية، والعلوم الأولية والآخرية، على أتم قضية.

فالكلمة الطيبة في قلوب المؤمنين - وهي العقيدة الإيمانية التوحيدية - كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ فأصل أصول الإيمان ثابت في قلب المؤمن، كثبات أصل الشجرة الطيبة، وفرعها في السماء: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

والله سبحانه مثل الكلمة الطيبة، أي: كلمة التوحيد، بشجرة طيبة؛ أصلها ثابت وفرعها في السماء.

فبين بذلك أن الكلمة الطيبة لها أصل ثابت في قلب المؤمن، ولها فرع عالٍ. وهي ثابتة في قلب ثابت، كما قال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).

فالمؤمن عنده يقين وطمأنينة، والإيمان في قلبه ثابت مستقر، وهو في نفسه ثابت على الإيمان، مستقر، لا يتحول عنه.

والكلمة الخبيثة: كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض: استؤصلت واجتثت، كما يقطع الشيء، يجتث من فوق الأرض. ما لها من قرار: لا مكان تستقر فيه، ولا استقرار في المكان؛ فإن القرار يراد به مكان الاستقرار كما قال تعالى: وبئس القرار وقال: جعل لكم الأرض قرارا . ويقال: فلان ما له قرار أي ثبات. وقد فسر القرار في الآية بهذا وهذا.

فالمبطل: ليس قوله ثابتا في قلبه، ولا هو ثابت فيه، ولا يستقر. كما قال تعالى في المثل الآخر: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ فإنه وإن اعتقده مدة، فإنه عند الحقيقة يخونه، كالذي يشرك بالله؛ فعند الحقيقة يضل عنه ما كان يدعو من دون الله. وكذلك الأفعال الباطلة التي يعتقدها الإنسان: عند الحقيقة تخونه، ولا تنفعه؛ بل هي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض؛ ما لها من قرار.

فمن كان معه كلمة طيبة، أصلها ثابت: كان له فرع في السماء، يوصله إلى الله؛ فإنه سبحانه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

ومن لم يكن معه أصل ثابت: فإنه يحرم الوصول؛ لأنه ضيع الأصول. ولهذا تجد أهل البدع والشبهات لا يصلون إلى غاية محمودة، كما قال تعالى: له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (13/ 158-160).

وقال ابن القيم، رحمه الله:

"وتحت قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: 27]: كنز عظيم، مَن وُفِّق لمظِنَّته، وأحسن استخراجه، واقتناه، وأنفق منه= فقد غَنِم، ومن حُرِمَه= فقد حُرِم.

وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفةَ عين، فإن لم يثبِّته وإلا زالت سماءُ إيمانه وأرضُه عن مكانهما.

وقد قال تعالى لأكرمِ خلقه عليه عبدِه ورسولِه: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74]. وقال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12]. وفي "الصحيحين" من حديث التجلِّي قال: "وهو يسألهم ويثبِّتهم". وقال تعالى لرسوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود: 120].

فالخلق كلّهم قسمان: موفَّق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت.

ومادة التثبيت: أصله ومنشؤه من القولِ الثابتِ، وفعلِ ما أُمِرَ به العبد، فبهما يثبِّت الله عبدَه، فكلُّ من كان أثبت قولًا، وأحسن فعلًا= كان أعظم تثبيتًا. قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66].

فأثبَتُ الناس قلبًا، أثبَتُهم قولًا.

والقول الثابت: هو القول الحق، والصدق. وهو ضد القول الباطل الكذب.

فالقول نوعان: ثابت؛ له حقيقة. وباطل؛ لا حقيقة له.

وأثبَتُ القولِ كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبِّت الله بها عبدَه في الدنيا والآخرة.

ولهذا ترى الصادقَ من أثبت الناس وأشجعهم قلبًا، والكاذبَ من أمهَن الناس وأجبَنهم، وأكثرهم تلوُّنًا وأقلِّهم ثباتًا.

وأهلُ الفراسة يعرفون صدقَ الصادق من ثبات قلبه وقتَ الاختبار، وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضدِّ ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.

وسئل بعضهم عن كلامٍ سمعه من متكلِّم به، فقال: والله ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أنِّي رأيتُ لكلامه صولةً ليست بصولة مبطِل.

فما مُنِح العبد منحةً أفضلَ من منحة القول الثابت.

ويجد أهلُ القول الثابت ثمرتَه أحوجَ ما يكونون إليه؛ في قبورهم، ويوم معادهم، كما في "صحيح مسلم" من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر". انتهى، من "أعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 353-355).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android