أولاً:
ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه عن كثرة الأيمان؛ لأنّ كثرتها مفض إلى إلزام نفسه بما لا يلزمه من الفعل أو الكفارة، أو الوقوع في اليمين الكاذبة، إذا اعتاد لسانُه الحلف على كل أمر.
وقد جاءت النصوص بالأمر بحفظ الأيمان وذم كثرة الحلف.
قال الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة/ 89.
قال البغوي رحمه الله:
" أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْحَلِفِ، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا" انتهى من "تفسير البغوي" (3/ 93).
وقال القاسمي رحمه الله:
"والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أنّ من حلف في كل قليلٍ وكثيرٍ بالله، انطلق لسانه بذلك. ولا يبقى لليمين في قلبه وقع. فلا يؤمَنُ إقدامه على اليمين الكاذبة. فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين" انتهى من "تفسير القاسمي" (2/ 129).
وقال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) القلم/ 10.
قال ابن قدامة رحمه الله:
"ويكره الإفراط في الحلف بالله تعالى، لقول الله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله" انتهى من "المغني" (13/ 439).
ثانياً:
إخلاف الوعد يورث النفاق العملي، ولو كان بغير يمين وإذا كان مع اليمين فهو أشد خطرا وإثما، وإذا بيّت صاحبه النية على الخلف سلفا فهو من اليمين الغموس التي تورد صاحبها المهالك والنار.
فمن حلف على فعل طاعة: وجب عليه القيام بها، لأجل يمينه، أو نذره؛ وإن لم تكن الطاعة واجبة بأصل الشرع.
فإن لم يفعل، دخل في الوعيد الوارد على إخلاف العهد لقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً الإسراء/34.
وقال تعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ التوبة/ 75 - 77.
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها رواه البخاري (3178) ومسلم (58).
وروى الطبري في "تهذيب الآثار" (958)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (679): عن هارون بن رئاب، أن عبد الله بن عمرو، قال في مرضه: "زوجوا فلانا فلانة - ابنة له - فإني كنت قلت له فيها قولا شبيها بالعدة، وإني أكره أن ألقى الله بثلث النفاق".
قال الذهبي: "هارون ثقة، لكنه لم يلحق عبد الله بن عمرو" "سير أعلام النبلاء" (8/ 396).
ثالثا:
اليمين إذا تضمن الالتزام بفعل قربة من القربات يجري مجرى العهد والنذر، فإذا حلف الشخص أن يصلي عددًا من الركعات، أو يتصدق، أو يعتمر ونحو ذلك: فإن هذا اليمين يجري مجرى العهد والنذر.
فإذا أخلفه، مع قدرته عليه: وقع في الوعيد. وإذا لم يقدر عليه فإنه يكفّر كفارة يمين.
وقد سبق بيان كفارة النذر الذي لا يقدر عليه: (298912).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"الأيمان إن تضمنت معنى النذر، وهو أن يلتزم لله قربة: لزمه الوفاء بها؛ فهي عقد وعهد ومعاهدة لله؛ لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه.
وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه: فمعاقدة ومعاهدة، يلزم الوفاء بها إن كان العقد لازما، وإن لم يكن لازما خُيِّر، وهذه أيمان بنص القرآن، ولم يعرض لها ما يحُل عُقْدَتها إجماعا" انتهى من "تقريب فتاوى ابن تيمية" (5/239).
وقال ابن مفلح رحمه الله: "قال شيخنا -يعني ابن تيمية-: والعقود والعهود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام، فهو نذر وعهد ويمين، ولو قال: أن لا أكلم زيدا، فيمين وعهد، لا نذر؛ فالأيمان إن تضمنت معنى النذر، وهو أن يلتزم لله قربة: لزمه الوفاء". انتهى من "الفروع" (10/452).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
"وإذا حلف، أو نذر إن رجع إليها أن يتصدق بكذا، أو يصلي كذا، أو يصوم كذا؛ فهذا فيه تفصيل؛ إن أراد بهذا القربةَ إلى الله، وأنه متى فعل، وعاد إليها؛ تاب، وتقرب إلى الله بهذا، زيادة في التوبة؛ هذا يلزمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه)، فنذر الطاعة يجب الوفاء به، لهذا الحديث الصحيح: (من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه) واجب" انتهى.
وينظر للفائدة الفتوى: (187335)، (38934).
ثالثاً:
أما ما أشرت إليه، مما تناقله بعض المفسرين من أنّ الآيات الكريمة: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ التوبة: 75-77.
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، أو في ثعلبة بن حاطب: فهذا لا يصح ؛ وهذه الروايات التي ذكرت ذلك أسانيدها ضعيفة، وحاطب وثعلبة من أهل بدر المشهود لهم.
فعن جَابِرٍ: " أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا. فَإِنَّهُ شَهِدَ بدرا والحديبية رواه مسلم(2195).
قال الطبري رحمه الله في بيان من نزلت فيهم الآيات:
"هؤلاء صنف من المنافقين، فلما آتاهم ذلك بخلوا به، فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقًا إلى يوم يلقونه، ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة" انتهى من "تفسير الطبري" (14/ 375).
وقال القرطبي في تفسيره : " قلت وثعلبة بدري أنصاري، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان، فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح " انتهى من "تفسير القرطبي " (8/ 210).
وقال ابن حزم رحمه الله في بيان نزول هذه الآيات الكريمة:
"وهذه أيضا صفة أوردها الله تعالى يعرفها كل من فعل ذلك من نفسه، وليس فيها نص ولا دليل، على أن صاحبها معروف بعينه، على أنه قد روينا أثرا لا يصح، وفيه أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب - وهذا باطل، لأن ثعلبة بدري معروف" انتهى من "المحلى بالآثار" (12/ 137).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" ... فإنها نزلت ابتداء في بيان حال بعض المنافقين، وأما ما اشتهر من أنها نزلت في ثعلبة ابن حاطب في قصة طويلة، ذكرها كثير من المفسرين، وروجها كثير من الوعاظ، فضعيف لا صحة له" انتهى من "أصول في التفسير" (ص10).
والحاصل:
أن من حلف على فعل طاعة، أو عاهد الله عليها: وجب عليه أن يعمل هذه الطاعة، وفاء بحلفه، أو نذره، ولا يحل له أن يتركها، وهو يقدر على فعلها.
ومن حلف على خير، فلم يفعله، أو عاهد الله عليه، فأخلف وعده: وقع في شعبة من شعب النفاق العملي. وقد ذم الشرع النفاق مطلقا، سواء نفاق القلب بالإيمان، أو نفاق العمل بالجوارح.
والله أعلم.
