هل روح المؤمن تبقى معلقه بدينه دائما إذا لم يقض عنه؟

السؤال: 590774

إذا المدين لا يريد السداد، فهل عذابه مثل عذاب الكفار إلى الأبد؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

قد شددت الشريعة في شأن سداد الدين، حتى بينت أن تعمُّد عدم سداد الدين مع القدرة معدود في كبائر الذنوب، بل عدَّ العلماء في الكبائر: الاستدانةَ إذا كانت نيته عدم الوفاء.

وكذلك: الاستدانة إذا لم يكن له مصدر يرجو أن يسدَّ دينه منه، مع جهل الدائن بحاله، ذكرهما الهيتمي في "الزواجر" (1/ 413).

أي: إذا كانت نيته في وقت الاستدانة عدم الوفاء؛ فقد ارتكب كبيرة من وقت الاستدانة، وقبل أن يحل أجل الدين ووقت وفائه.

ويراجع للفائدة الجواب (71183) و(551255).

ثم إن عاش المديون وهو يماطل، لا يريد السداد، مع القدرة عليه؛ فقد عاش ظالمًا لصاحب المال، وظالمًا لنفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَطْل الغنيِّ ظلمٌ  ، رواه البخاري (2287) ومسلم (1564).

وروى أحمد (10156) والترمذي (1078) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نَفْس المؤمنِ معلَّقةٌ بدَيْنِه حتى يُقضَى عنه)، وهذا لفظ الترمذي.

وحسَّنه محققو المسند، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

وأما معنى أن النفس معلقة بالدين:

فقال السيوطي: "(نفس المؤمن معلقة)، أي: محبوسة عن مقامها الكريم"، انتهى من "قوت المغتذي على جامع الترمذي" (1/ 327 – الرسالة العلمية، جامعة أم القرى).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يعني أن نفسه - وهو في قبره - معلقة بالدين، كأنها، واللهُ أعلم؛ تتألم من تأخير الدين، ولا تفرح بنعيم ولا تنبسط، لأن عليه دَينًا، ومن ثم قلنا: إنه يجب على الورثة أن يبادروا بقضاء الدين"، انتهى من "شرح رياض الصالحين" (4/553).

والمقصود: أن كون النفس معلَّقة بالدَّين؛ لا يلزم منه أن تكون معذَّبة بالنار، بل معنى التعليق أنَّ روحه محبوسة عن خيرٍ، أو تنعيم، أو انبساط، ولولا الدَّين لتنعمت بذلك، كما يقتضيه النقلان السابقان عن السيوطي وابن عثيمين.

فالميت قد يكون في ميراثه ما يقضي هذا الدين، وقد يكون الميت غير مفرط في سداد الدين، فهذا أيضًا تٌعلَّق نفسه بالدين حتى يُقضَى الدين عنه، إما من الميراث أو من غيره، ولذلك نص أكثر العلماء أن تعليق نفس الميت بالدين يحصل سواء ترك مالًا يكفي قضاء الدين أو لم يترك.

فبذلك يصدق على الحديث أنه: حث "للورثة على قضاء دين الميت"، كما قال الشوكاني في " نيل الأوطار" (4/ 30)، وسبق نحوه عن ابن عثيمين، رحمهما الله.

ثانيًا:

أما الذي ارتكب كبيرة أكل أموال الناس بالباطل، بالاستدانة مع نيَّته عدم السداد، فجرمه أعظم، وذنبه مركب، إذ يتعلق به حق لله تعالى، وحق للعبد صاحب المال.

فأما حق العباد فقد يُقضَى الدَّين من ميراثه، أو من غير ميراثه، بأن يضمن المال عنه أحد الأحياء، أو قد يعفو صاحب المال، وقد يؤخذ من حسناته يوم القيامة.

وروى البخاري (2387) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله.

وروى البخاري (6534) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه.

وروى مسلم (2581) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار.

فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن أكل أموال الناس بالباطل؛ مظلمة توجب أخذ حسنات الظالم لصالح المظلوم، فإن لم توفِ الحسناتُ بالدَّين؛ أُخذ من خطايا المظلوم فطرحت على الظالم، ثم قد يؤدي به إلى النار بسبب مظالم العباد.

وفي جميع الأحوال، فإنَّ جحدَ الدَّينِ، أو عدم اكتراث المدين بأن يسدده لصاحبه، مع قدرته على السداد؛ كبيرة من الكبائر، وليس كفرًا، فلا يخلَّد صاحبه في النار، بل أصحاب الكبائر من الموحِّدين إن قضى الله تعالى عليهم بالنار، فإن عذابهم لا يدوم كدوام عذاب الكافرين، بل يخرجون من النار ولو بعد حينٍ.

لقول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.

قال الطبري رحمه الله: "قد أبانت هذه الآية أنَّ كلَّ صاحبِ كبيرة؛ ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركا بالله"، انتهى من "تفسيره" (7/ 123).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم،

ودلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة أهل السنة، أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار إن كان مسلمًا، بل أمره إلى الله، إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه، فإن عذَّبه فمآله في آخر أمره أن يخرج من النار، ويدخل الجنة.

وللفائدة تراجع الأجوبة: (26792)، و(132608)، و(215431).

فالحاصل:

أنَّ المؤمن إذا علِّقت نفسُه بعد موته بسبب الدَّين الذي عليه، فحُبِست نفسه عن النعيم والانبساط والخير بسبب الدَّين، فإنَّ هذا لا يدوم، فإنَّ مآله إلى الجنة ولا بدَّ، كما وعدَ الله تعالى كلَّ موحِّدٍ لا يشرك به شيئًا.

وكذلك إذا تسبب الدَّينُ في دخول المسلم النار، لأجل أنه كان من أكله أموالَ الناس بالباطل، فتؤخذ منه حسناته لأصحاب الأموال، وتطرح عليه من خطاياهم، ثم يُطرح في النار، كما في حديث (المفلس)؛ فإن هذا لا يدوم أيضًا، فإن أصحاب الكبائر من الموحِّدين إذا عوقبوا بالنار، فلا بد أن يخرجوا منها يومًا، ولو بعد عذاب طويل.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android