2,953

ما المراد بأداء الرسول ﷺ الدين عمن مات ولم يقض دينه؟

السؤال: 551255

عثرت على هذا الحديث: (الدَّينُ دَينانِ، فمن مات وهو ينوي قضاءَه، فأنا وليُّه، و من مات ولا ينوي قضاءَه فذاك الذي يُؤخذُ من حسناتِه، ليس يومئذٍ دينارٌ ولا درهمٌ)، هل معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقضي لمن كان ينوي ولم يستطع في الآخرة؟ أم كان مخصوصا في حياته؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

روى مسلم في صحيحه (1886) أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكر لأصحابه أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله؛ أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: " يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلت في سبيل الله، تكفَّر عني خطاياي؟

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتِلتَ في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلتَ؟

قال الرجل: أرأيت إن قُتِلت في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدَّين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك!

فهذا الحديث وغيره يبيِّن خطورة أمر الدَّين، فإن الشهداء من أعظم الناس منزلةً وفضلًا وأجرًا عند الله يوم القيامة، ولم يُعفَ عن الديون في حقهم، فكيف بغيرهم؟

فالعبادات مهما كان أجرها لا تُنجي صاحبها من حقوق العباد التي تعلَّقت به، وقد شددت الشريعة في شأن سداد الدين، حتى عدَّ العلماء في الكبائر: الاستدانة إذا كانت نيته عدم الوفاء، وكذلك: الاستدانة إذا لم يكن له مصدر يرجو أن يسدَّ دينه منه، مع جهل الدائن بحاله، ذكرهما الهيتمي في "الزواجر" (1/413).

وينظر للفائدة إجابة السؤالين: (539758)، و(71183).

وأما قضاء الدَّين في الآخرة: فإنما يكون بالحسنات والسيئات، فليس في الآخرة دينار ولا درهم ولا مالٌ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات؛ أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه، رواه البخاري (6534).

ثانيًا:

الحديث الوارد في السؤال: قد رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (14146 – الجزء المطبوع مفردًا)، وصححه الشيخ الألباني بشواهده، كما في "أحكام الجنائز: (ص5).

وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي دَينَ من مات مديونًا، إذا لم يكن في تركة الميت ما يكفي لقضاء الدين.

كما روى البخاري (2298)، ومسلم (1619) : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتَى بالرجل المتوفَّى عليه الدين، فيَسأل: هل ترك لدَينه فضلًا؟، فإن حُدِّث أنه ترك لدينه وفاءً؛ صلَّى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا، فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته.

قال النووي في "شرح مسلم" (11/60): " قيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقضيه من مال مصالح المسلمين، وقيل: من خالص مال نفسه"، انتهى. وقال ابن حجر في فتح الباري (4/ 478): "وفي صلاته صلى الله عليه وسلم على مَن عليه دَين، بعد أن فتح الله عليه الفتوح: إشعارٌ بأنه كان يقضيه من مال المصالح" انتهى.

ولذا تكلم العلماء في قضاء الديون في الدنيا، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هل يكون من بيت مال المسلمين؟

قال النووي في "شرح مسلم" (11/60): "واختلف أصحابنا في قضاء دين من مات وعليه دين، فقيل: يجب قضاؤه من بيت المال، وقيل لا يجب"، انتهى، ورجح ابن حجر القضاء من بيت المال، كما في "فتح الباري" (12/10).

ثم نقل ابن حجر عن ابن بطالٍ قوله: "فإن لم يُعطِ الإمامُ عنه من بيت المال: لم يُحبَس عن دخول الجنة، لأنه يستحقُّ القدر الذي عليه في بيت المال، ما لم يكن دَينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلًا" انتهى.

قال ابن حجر: "قلت: والذي يظهر؛ أن ذلك يدخل في المقاصصة، وهو كمن له حقٌّ، وعليه حقٌّ، وقد مضى أنهم إذا خلصوا من الصراط حُبِسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصُّون المظالم، حتى إذا هُذبوا ونُقُّوا؛ أُذِن لهم في دخول الجنة"، انتهى من "فتح الباري" (12/ 10).

فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي عن الميت المديون بالشرط المذكور سابقًا، وهذا في مدة حياته صلى الله عليه وسلم، وخاصة بعد أن كثر مال الفتوحات، وأما بعد وفاته، فاختلف العلماء هي يُقضَى عنه من بيت المال أم لا، فكل هذا في الدنيا، وليس في الآخرة.

لكن: صحَّ حديثٌ آخر يدل على أنَّ من استدان بغير خدعة الناس، ولا نية سوء، وكان حريصًا على أداء المال لأصحابه: تحمَّل الله تعالى عنه يوم القيامة، وليس النبي صلى الله عليه وسلم.

وهو ما رواه البخاري (2387) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله، ومعنى أن يؤدي الله عنه: أن يُرضيَ الله صاحب الدَّين في الآخرة، دون مؤاخذة المديون، ولا أخذ شيء من حسناته.

وبيَّن ابن حجر في شرح الحديث أن ذلك يصدق على: من مات قبل سداد الدين، بغير تقصيرٍ منه، كأن يُعسِر مثلًا، أو يفجأه الموت، أو كان له مال مخبوء، وكانت نيته وفاء دينه، ولم يوفَ عنه في الدنيا، ثم قال رحمه الله:

"والظاهر: أنه لا تبعة عليه - والحالة هذه - في الآخرة، بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، كما دلَّ عليه حديث الباب ...

قوله: (أتلفه الله)؛ ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه، وهو علَم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين.

وقيل: المراد بالإتلاف: عذاب الآخرة"، انتهى مختصرًا من "فتح الباري" (5/54).

والحاصل:

أن الأحاديث قد شددت في شأن الدين، حتى إن الشهيد يُحجَز عن الجنة، ويغفر له كل ذنب، إلا الديون، وجاءت الأحاديث أيضًا بأن الله يؤدي عن صاحب الدين، إذا كانت استدانته مصحوبة بنية السداد وإرادة الأداء، وكان لا يريد أن يتلف أموال الناس؛ يعني: بأن يستنفقها لنفسه، وهو يعلم أنه لا يقدر على أدائها، أو يجحدها، أو يخدع أصحابها فيوهمهم أنه قادر على السداد، وليس هو كذلك.

وليس بين الأحاديث تعارض، فهناك صورتان فيهما وعيد وتشديد في الآخرة، وهما كبيرتان من الكبائر، وهما:

1- من استدان وفي نيَّته عدم السداد.

2- من استدان وليس له مصدر يرجو أن يسدَّ دينه منه، ولم يبين ذلك لصاحب المال.

أما من استدان وله مصدر يرجو أن يسد دينه منه، وكان حريصًا على سداد دينه؛ فإن مات قبل السداد، فيُرجَى أن يؤدي الله عنه يوم القيامة، فلا يؤخَذ من حسناته لتعطَى لصاحب المال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله.

وقال الهيتمي عن الصورتين المحرَّمتين: "ولا شك أن من أخذ دينًا لا يرجو له وفاءً من جهةٍ ظاهرةٍ، والدائن جاهل بحاله؛ فقد خدع الآخذ منه حتى أعطاه ماله، إذ لولا خديعته له، لم يعطه له.

وجميع التغليظات في الدَّين، المذكورة في هذه الأحاديث وغيرها، ينبغي حملها على إحدى هاتين الصورتين اللتين ذكرتُهما ... أو على ما لو استدانه ليصرفه في معصية.

وما جاء فيه من التخفيف؛ كالإعانة، والقضاء عنه، وغيرهما: ينبغي حملُه على ما لو استدانه في طاعةٍ، ناويًا أداءه، وله وجهةٌ ظاهرةٌ يؤدي منها، أو: والدائن عالم بحاله"، انتهى من "الزواجر" (1/ 414).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android