هل يجوز إقامة أكثر من جمعة في المسجد نفسه عند الحاجة؟

السؤال: 587158

في بعض البلاد غير الإسلامية تقلّ المساجد ولا تسع أعداد المصلين، وتمنع السلطات إقامة الصلاة في الساحات العامة، فصارت بعض المساجد تعقد صلاة الجمعة مرتين ليستوعب الناس. فما حكم الشرع في ذلك؟

ملخص الجواب

القول بالترخيص عند الحاجة قول وجيه معتبر، فلا حرج على من أخذ به، ولا ينبغي التساهل في هذا الأمر وتكرار الجمعة في المسجد نفسه إلا عند وجود حاجة معتبرة.

موضوعات ذات صلة

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

الذي جرى عليه عمل المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم هو إقامة صلاة جمعة واحدة في كل بلدة، ولم تقم قط أكثر من جمعة في بلدة واحدة في عهد الصحابة والتابعين.

1-وقد أخذ بعض العلماء من هذا الاقتصار على جمعة واحدة وتعطيل الصلاة في سائر المساجد: المنع من تعدد الجمعة في البلد الواحد مطلقًا، كما هو مذهب المالكية والشافعية.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: "وقد احتج بعض من قال بأنَّ الجمعة لا ‌تصلَّى ‌إلا ‌في ‌مكانٍ ‌واحدٍ من المِصْر، بأنَّ النَّاس لم يختلفوا أنَّ الجمعة لم تكن تُصلَّى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الرَّاشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتُعطَّل سائر المساجد.

وفي تعطيل النَّاس الصَّلاة في مساجدهم يوم الجمعة لصلاة الجمعة، واجتماعهم في مسجدٍ واحدٍ، أبين البيان بأنَّ الجمعة خلاف سائر الصَّلوات، وأنَّ الجمعة لا ‌تُصلَّى ‌إلا ‌في ‌مكانٍ ‌واحدٍ". انتهى من "الأوسط" (4/128).

ولأن الجمعة "شُرعت لجَمْع الجماعات، والغرضُ منها إقامة هذا الشعار في اجتماع الجماعات في كلِّ أسبوع مرَّة، وإنَّما يتأتَّى هذا الغرض بإيجاب الاقتصار على جمعةٍ واحدةٍ". انتهى من "نهاية المطلب في دراية المذهب" (2/559).

قال المازَري رحمه الله تعالى: "فيجب اقتفاء أثر النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولم يقمها صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده ‌إلا ‌في ‌مسجدٍ ‌واحدٍ، ولو كانت إقامتها في مسجدين جائزة لفعله ولو مرَّةً واحدةً ليُشعر بجوازه". انتهى من "شرح التلقين" (1/976)، وينظر: "المعونة على مذهب عالم المدينة" (1/312).

وقالوا: إذا ضاق المسجد بالمصلين، صلوا في الشوارع والأفنية المحيطة به.

2-وذهب بعض العلماء إلى أن اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده على جمعة واحدة، إنما يدل على أن ذلك هو الأكمل والأفضل، وليس فيه ما يدل على منع إقامة أكثر من جمعة في البلدة الواحدة.

ولذلك أجازوا تعدد الجمعة مطلقًا، وهو قول عطاء، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والظاهرية.

وروى عبد الرزاق في "المصنف" (3/443): عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟

قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه، ثم يجزئ ذلك عنهم.

قال ابن جريج: وأنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر.

وفي "تبيين الحقائق" للزيلعي (1/ 218): "(وتؤدى في مصر في مواضع) أي تؤدى الجمعة في مصر واحد في مواضع كثيرة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو الأصح؛ لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجا بينا، وهو مدفوع".

قال ابن عابدين: " فإن المذهب الجواز مطلقا".  انتهى من "حاشية ابن عابدين" (2/ 145).

وقال ابن حزم: "وإن صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعدا: جاز ذلك". المحلى بالآثار (3/ 252).

وقال صدِّيق حسن خان: "مجرَّد أنَّه صلى الله عليه وسلم لم ‌يأذن ‌بإقامة ‌جمعة غير جمعته، في المدينة وما كان يتصل بها من القرى: فهذا مع كونه لا يصحُّ الاستدلال به على الشَّرطية المقتضية للبطلان، بل ولا على الوجوب الذي هو دونها= يستلزم أن يكون الحكم هكذا في سائر الصلوات الخمس، فلا تصح الصَّلاة جماعةً في موضع لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الجماعة فيه، وهذا من أبطل الباطلات". انتهى من "الموعظة الحسنة بما يخطب في شهور السنة" (ص17)، وينظر: "السيل الجرار" للشوكاني (ص186).

3-وذهب بعض العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق عمليًّا بين صلاة الجمعة والصَّلوات الخمس، فقد كان في المدينة عدَّة مساجد تُقام فيها صلاة الجماعة، وأمَّا الجمعة فلم تكن لتتعدَّد، بل كان أهل المساجد الأخرى كلُّهم يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيُجمِّعون فيه.

فهذا التَّفريق العملي يدل على عدم مشروعية تعدد الجمعة دون حاجةٍ.

وأما عند وجود الحاجة المعتبرة فلا حرج من تعدد صلاة الجمعة في البلدة الواحدة، وهو مذهب الحنابلة، وقال به طائفة من سائر المذاهب الأربعة وغيرهم.

وقالوا: إن عمل المسلمين جرى على هذا في سائر البلدان، وهو الذي لا يسع الناس غيره مع اتساع المدن وتباعد المسافات، حيث إن في إقامتها في مسجدٍ واحدٍ مشقةً وحرجًا على الناس.

قال ابن قدامة: "ولمَّا دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صُلِّيت في أماكن، ولم يُنكر، فصار إجماعًا". انتهى من "المغني" (3/212).

وفي "البيان والتحصيل" (1/350) نقلا عن بعض المالكية: "أما الأمصار العظام، مثل مصر وبغداد: فلا بأس أن يجمعوا في مسجدين للضرورة، وقد فعل ذلك والناس متوافرون فلم ينكروه"، انتهى.

ولكن هذا الجواز مقيد بالحاجة، والحاجة تقدر بقدرها.

قال ابن قدامة: "فأما ‌مع ‌عدم ‌الحاجة: فلا يجوز أكثر من واحدة، وإن حصل الغِنى باثنتين: لم تجز الثالثة، وكذلك ما زاد، لا نعلم في هذا مخالفا". انتهى من "المغني" (3/213).

قال ابن تيمية: "‌فإقامة ‌الجمعة في المدينة الكبيرة ‌في ‌موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء؛ ولهذا لما بنيت بغداد، ولها جانبان: أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء". انتهى من "مجموع الفتاوى" (24/208).

وقال الشيخ ابن باز: "أما إن دعت الحاجة الشديدة إلى إقامة جمعتين أو أكثر في البلد أو الحارة الكبيرة: فلا بأس بذلك في أصح قولي العلماء.

وذلك مثل: أن تكون البلد متباعدة الأطراف ويشق على أهلها أن يجتمعوا في مسجد واحد، فلا بأس أن يقيموا الجمعة في مسجدين أو أكثر على حسب الحاجة، وهكذا لو كانت الحارة واسعة لا يمكن اجتماع أهلها في مسجد واحد فلا بأس أن يقام فيها جمعتان كالقرية، ولهذا لما بنيت بغداد وكانت واسعة الأرجاء، أقيم فيها جمعتان إحداهما في الجانب الشرقي والثانية في الجانب الغربي، وذلك في وسط القرن الثاني، بحضرة العلماء المشهورين، ولم ينكروا ذلك؛ لدعاء الحاجة إليه...، وقد نص الكثير من العلماء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة". انتهى من "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (12/353).

وهذا القول هو الأرجح كما سبق في جواب السؤال (296537).

ثانيا:

من النوازل المستجدة في عصرنا الحاضر: قلة المساجد في بعض المدن غير الإسلامية، وضيقها عن استيعاب أعداد المصلين يوم الجمعة، مع منع السلطان من الصلاة خارج حدود المسجد، مما دعا إلى تكرار إقامة صلاة الجمعة في المسجد الواحد.

وقد اختلف المعاصرون من أهل العلم في حكم تكرار الجمعة في المسجد نفسه على قولين:

الأول: المنع من تعدد الجمعة في المسجد الواحد، وهو مقتضى قول من يمنع من تعدد الجمعة في البلدة الواحد مطلقا، وبه أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء، حيث جاء في فتواها:

"إنشاء جمعتين في مسجد واحد غير جائزة شرعا، ولا نعلم له أصلا في دين الله، والأصل أن تقام جمعة واحدة في البلد الواحد، ولا تتعدد الجمع إلا لعذر شرعي؛ كبعد مسافة على بعض من تجب عليهم، أو يضيق المسجد الأول الذي تقام فيه عن استيعاب جميع المصلين، أو نحو ذلك مما يصلح مسوغا لإقامة جمعة ثانية، فعند ذلك يقام جمعة أخرى في مكان يتحقق بإقامتها فيه الغرض من تعددها .

فعلى الإخوة السائلين أن يلتمسوا مكانا آخر وسط من يأتون للمسجد المطلوب وإعادة صلاة الجمعة فيه، ويقيموا فيه جمعة أخرى ، حتى ولو لم يكن مسجدا كالمساكن الخاصة وكالحدائق والميادين العامة التي تسمح الجهات المسؤولة عنها بإقامة الجمعة فيها" انتهى من فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 262).

الثاني: الترخيص بتعدد الجمعة في المسجد الواحد عند وجود الحاجة المعتبرة.

وهذا القول يمكن تخريجه على قول من أجاز تعدد الجمعة مطلقا أو للحاجة، دون جزم بذلك لاختلاف صورة المسألة، وإن كانت ترجع لأصل واحد.

وقد أفتت به هيئات الفتوى في أمريكا وأوروبا، ودار الإفتاء المصرية، ورجَّحه جمع من الباحثين.

ومما يؤيد هذا القول:

1-أن كثيرًا من العلماء رخّصوا في تعدد الجمعة في البلدة الواحدة عند وجود الحاجة، والمعنى الذي اقتضى الترخيص هناك، موجود هنا أيضًا؛ إذا لم يوجد مسجد آخر وتعذّر إقامتها في الساحات أو الأماكن العامة.

2-أن مصلحة إقامة صلاة الجمعة، أعظم من مصلحة اجتماع المسلمين في جمعة واحدة، وإذا تعارضت المصالح فإنه يُقدَّم الأرجح منها والأعظم نفعًا.

3-إذا صار الناس بين أمرين: تعدد الجمعة أو فواتها، فلا شك أن مفسدة التعدد أقل بكثير من مفسدة فوات الصلاة وتعطيل شعيرة الجمعة.

4-أن الامتثال للأوامر الشرعية مقيد بالاستطاعة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه. وهذا هو المستطاع بالنسبة لهؤلاء، والله تعالى يقول: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

والحاصل:

أن المسألة من مسائل الاجتهاد، ولكل قولٍ دليله وحجته، والقول بالترخيص عند الحاجة قول وجيه معتبر، فلا حرج على من أخذ به.

ولا يجوز التساهل في هذا الأمر وتكرار الجمعة في المسجد نفسه إلا عند وجود حاجة معتبرة تقتضيها.

وينبغي للقائمين على شؤون المسلمين في تلك البلاد أن يعلموا أن تكرار الجمعة في المسجد الواحد لضيق المكان أمرٌ مخالف للأصل، وهو حالة استثنائية دعت إليها الحاجة، فعليهم أن يسعوا ما أمكن إلى العودة إلى الأصل، وهو إقامة جمعة واحدة في المسجد، وأن يبذلوا جهدهم في تيسير إقامة صلاة الجمعة في مواضع أخرى بحسب الحاجة.

فإن تعذّر ذلك وشقَّ عليهم، ولم يكن أمامهم إلا إعادة صلاة الجمعة في المسجد نفسه، فلا بأس بذلك إن شاء الله، تحقيقًا للمصلحة ودفعًا لمفسدة فوات الصلاة.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android