أولا:
هذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي (2 / 351)، ومن طريقه الإمام أحمد في "المسند" (28 / 188)، وغيرهما: عَنْ عِمْرَان الْقَطَّان، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ ).
وهذا إسناد فيه ضعف.
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
" عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ )، فذكر الحديث.
رواه أحمد، وفيه عمران القطان، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات " انتهى. "مجمع الزوائد" (7 / 46).
وعمران القطان قد ضُعِّف، لكن ضعفه ليس بالشديد.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"عمران بن داور أبو العوام القطان عن الحسن: صدوق، ضعفه يحيى والنسائي" انتهى. "المغني في الضعفاء" (2/478).
وقال رحمه الله تعالى:
"عمران القطان أبو العوام ابن داور …: ضعفه النسائي، ومشاه أحمد وغيره" انتهى. "الكاشف" (2/93).
وعمران القطان قد تابعه في هذه الرواية، سعيد بن بشير.
رواه الطبري في "التفسير" (1/96)، وغيره: عن سعيد بن بَشيرٍ، عن قتادةَ، عن أبي المَلِيحِ، عن واثلةَ بنِ الأسْقَعِ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( أُعْطِيتُ مَكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطُّوَلَ، وأُعْطِيتُ مَكانَ الزَّبُورِ المِئِينَ، وأُعْطِيتُ مَكانَ الإنجِيلِ المثَانِيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفَصَّلِ ).
وسعيد فيه ضعف أيضا.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" سعيد بن بشير صاحب قتادة: وثقه شعبة، وقال البخاري: يتكلمون في حفظه. وقيل كان قدريا، ضعفه أبو مسهر وابن المديني وابن معين " انتهى. "المغني في الضعفاء" (1 / 256).
وقال رحمه الله تعالى:
" سعيد بن بشير البصري الحافظ، نزل دمشق، عن قتادة والزهري... قال البخاري: يتكلمون في حفظه، وهو يحتمل. وقال دحيم: ثقة كان مشيختنا يوثقونه، كان قدريا " انتهى. "الكاشف" (1 / 432).
وورد عن أبي قلابة مرسلا.
رواه الطبري في "التفسير" (1 / 96)، قال: حدَّثني يعقوبُ بنُ إبراهيمَ، قال: حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ، عن خالدٍ الحَذَّاءِ، عن أبي قِلابةَ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكانَ التَّوْراةِ، وأُعْطِيتُ المثَانِيَ مَكانَ الزَّبُورِ، وأُعْطِيتُ المِئِينَ مَكانَ الإنْجِيلِ، وفُضِّلْتُ بالمُفَصَّلِ ).
فالحاصل؛ أن هذا الخبر لا تخلو أسانيده من ضعف؛ لكن ضعفها ليس بالشديد، فيقوي بعضها بعضا، خاصة أن هذا الخبر متعلق بالفضائل لا بالأحكام التي يحتاط لها.
وحسن إسناده محققو المسند (28/188)، وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه، حيث قال رحمه الله تعالى:
" أخرجه الطيالسي … من طريق عمران القطان عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره.
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير عمران القطان، فهو حسن الحديث للخلاف المعروف فيه، وقد تابعه سعيد بن بشير عن قتادة به. أخرجه الطبري ويوسف بن عبد الهادي في " هداية الإنسان "...
وله شاهد من مرسل أبي قلابة مرفوعا نحوه. أخرجه الطبري.
قلت: وإسناده صحيح مرسل. قلت: فالحديث بمجموع طرقه صحيح. والله أعلم " انتهى. "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3 / 469).
ثانيا:
ومعنى السبع الطوال، والمئين، والمثاني، والمفصل، كما في قول الطبري رحمه الله تعالى:
"والسبع الطّول؛ البقرة، وآل عمران، والنّساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، في قول سعيدِ بن جبير…
وإنما سمّيت هذه السّور السبع الطّول؛ لطولها على سائر سور القرآن.
وأما المئون، فهي ما كان، من سور القرآن: عدد آيِه مائة آية، أو تزيد عليها شيئا، أو تنقص منها شيئا يسيرا.
وأما المثاني، فإنها ما ثنّى المئين، فتلاها، فكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثواني.
وقد قيل: إن المثاني سمّيَت مثاني؛ لتثنية اللّه جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر. وهو قول ابن عباس…
ورُوي عن سعيدِ بن جبير أنه كان يقول: إنما سمّيت مثاني؛ لأنها ثنّيَت فيها الفرائض والحدود…
وأما المفصّل، فإنما سمّيت مفصّلا؛ لكثرة الفصول التي بين سورها بـ "بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم"." انتهى. "تفسير الطبري" (1 / 98 — 101).
فمعنى هذا الخبر، أنه صلى الله عليه وسلم أعطي بدل كل كتاب من هذا الكتب شطرا من القرآن، يوازيه ويعادله في الإفادة والعلم، وأعطي مع ذلك زيادةً وهو المفصل.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
" فقوله: مكان كذا، أي عوضا عنها، وبدلا، ( وفُضِّلْتُ بالمُفَصَّلِ ) أي أعطيته فضيلة وزيادة على ما أعطي الأنبياء من قبلي.
فأفاد أنه أعطي من الوحي، مثل ما أعطي كل من الأنبياء الذين ذكرت كتبهم، وفضل زيادة على ما أعطوا، كما سلف قريبا قوله: نافلة، وكأن المراد أنها مكانها في الإفادة وغيرها " انتهى. "التنوير شرح الجامع الصغير" (2 / 487).
ولم نقف لأهل العلم على كلام في معنى "البدلية" المذكورة في الحديث، ووجه ترتيب السور على الكتب السابقة.
فلعل وجه ذلك:
أن السبع الطوال تكثر فيها الأحكام والأوامر والنواهي، والتوراة كانت كذلك تشتمل على الأحكام التي أُمِرت بها بنو إسرائيل.
كما في قول الله تعالى:
( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ) المائدة (43 – 44).
وأما المئون فلعلها شابهت معاني ما في الزبور، وقيل كان فيه التحميد والتمجيد، وليس فيه أحكام.
روى الطبري في "التفسير" (14 / 625): عن قتادةَ قولَه: ( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا : ... وآتى داودَ زبورًا - كُنَّا نحدَّثُ أنه دعاءٌ عَلَّمه داودَ؛ تحميدٌ وتمجيدٌ، ليس فيه حلالٌ ولا حرامٌ، ولا فرائضُ ولا حدودٌ - وغفر لمحمدٍ ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ ).
وأما المثاني: فإن كان الأمر، كما سبق في قول الطبري رحمه الله تعالى:
" إن المثاني سمّيَت مثاني؛ لتثنية اللّه جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر، ورُوي عن سعيدِ بن جبير أنه كان يقول: إنما سمّيت مثاني؛ لأنها ثنّيَت فيها الفرائض والحدود " انتهى=
فتكون بهذا شبيهة بالإنجيل، فإنه كما أرسل عيسى عليه السلام مبشرا ونذيرا، بالأمثال والخبر والعبر، فقد جاء ببعض الأحكام الناسخة للتوراة، كما قد يشير إلى هذا قوله تعالى مخبرا عن عيسى عليه السلام:
( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) آل عمران/50.
ويكون ما في المفصل مما اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، وسوره قيل من سورة "ق" وقيل من "الحجرات" إلى سورة "الناس"، فهي سور يكثر فيها ذكر الوعد والوعيد وأحوال القيامة، ومعها جملة من الأحكام.
فيكون معنى هذا الحديث شبيها بقوله تعالى:
( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة /48.
قال ابن كثير بعد ذكره لأقوال السلف في تفسير ( وَمُهَيْمِنًا )، قال رحمه الله تعالى:
" وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات، ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها " انتهى. "تفسير ابن كثير" (3/413).
الخلاصة:
هذا الحديث لا تخلو أسانيده من ضعف، ويمكن أن يقوي بعضها بعضا، خاصة أنه في باب الفضائل التي لا يتشدد فيها.
والحديث يشير إلى أن القرآن الكريم اشتمل على ما في الكتب السابقة وزاد عليها، فيكون أطول هذه الكتب وأشملها علما.
قال الشيخ محمد بن عمر الحضرمي رحمه الله تعالى: " فصل: في ذكر أن القرآن اشتمل على مالم يشتمل عليه غيره من كتب الله السالفة، وفيه خمسة أحاديث: الأول: واثلة بن الأسقع … " انتهى. "ذخيرة الإخوان في اختصار الاستغناء بالقرآن" (ص 13).
والله أعلم.