هل المذنب التائب يتساوى مع من جاهد نفسه ورفض المعصية؟

السؤال: 579695

حديث التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والذي يدل على رحمة الله الواسعة ومغفرته، ولكن ما لا أستطيع فهمه هو أنه هل هذا يعني أن الذي ارتكب ذنباً ثم تاب عنه يتساوى بمن جاهد نفسه ورفض معصية الله؟ واذا كانوا يتساوون ما الذي ربحه الذي تجنب المعاصي وخسره التائب اذا كانت النتيجة واحدة.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" رواه ابن ماجه (4250)، وحسنه الألباني.

ومعنى الحديث: أن من تاب توبة نصوحًا، غفر الله له ذنبه ومحاه بالكلية، فلم يبق عليه إثم، وكأنه لم يرتكب الذنب أصلاً، وهذا من سعة رحمة الله تعالى ومغفرته. بل ويبدل الله سيئاته حسنات ويحبه ويجعله من عباده المتقين ؛ لأنه إنما تاب إلى ربه وأناب لمحبته لله وحرصه على رضاه وخوفه منه ، وتلك صفات المتقين .

قال ابن القيم رحمه الله:

" فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا محي أثر الذنب بالتوبة، صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن" انتهى من "طريق الهجرتين" (ص: 231) .

قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الفرقان/ 68 – 70 .

لكن هذا لا يعني أن التائب يُساوَى دائمًا في الفضل بمن جاهد نفسه في ترك المعصية ولم يفعلها، فقد يكون الذي جاهد نفسه ولم يفعل المعصية أعظم أجرًا.   

ومع ذلك، فإن التائب غالباً يُجاهد نفسه بعد التوبة، ويصبر على ترك الذنب، ويواجه مؤثرات البيئة والهوى، فله أجر المجاهدة والثبات، وقد يبلغ بذلك منزلة رفيعة عند الله؛ بما يُحدث من أعمال قلبية وخوف وافتقار وتضرع وتواضع.

قال المناوي رحمه الله في "فيض القدير" (3/276):

"(التائب من الذنب) توبة مخلصة صحيحة (كمن لا ذنب له)؛ لأن العبد إذا استقام ضعفت نفسه وانكسر هواه، وتغيرت أحواله، وساوى الذي قبله ممن لا صبوة له" انتهى.

والتحقيق في ذلك:

أن المراد أن التائب إذا صدق في توبته تُمحى ذنوبه كلها، بل ويبدلها الله حسنات، وهذا في حقه هو، دون المقارنة بغيره.

لأن الناس يتفاوتون في أثر التوبة، وقوة المجاهدة، وما يحدثه التائب من أعمال قلبية وأعمال ظاهرة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ، طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَهُ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ، أَعْظَمُ مِنْ حَالِهِ لَوْ لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/ 293).

ثانياً:

الذي يشتهي المعصية ولم يعمل بها، خوفاً من الله: أفضلُ من الذي لا يشتهي المعصية أصلاً. فمن جاهد نفسه في ترك المعصية مع شدة ميله لها له مغفرة وأجرٌ عظيم.

في "تفسير ابن كثير" (7/368):

"قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُتب إِلَى عُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلٌ لَا يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا، أَفْضَلُ، أَمْ رَجُلٌ يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا؟

فَكَتَبَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَهُونَ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات/ 3]" انتهى.

وحال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من كل حالٍ غيرِه.

قال ابن القيم رحمه الله في "طريق الهجرتين" (2/498):

"الهوى عدو الانسان، فاذا قهر عدوه، وصارت تحت قبضته وسلطانه، كان أقوى وأكمل ممن لا عدو له يقهره.

قالوا: ولهذا كان حالُ النبي صلى الله عليه وسلم في قهره قرينه، حتى انقاد وأَسلم له، فلم يكن يأْمره إلا بخير: أكملَ من حال عمر؛ حيث كان الشيطان إذا رآه يفر منه، وكان إذا سلك فجاً سلك غير فجه.

وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفر منه، ومع هذا قد تفلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرَّض له وهو في الصلاة، وأَراد أن يقطع عليه الصلاة؟ ومعلوم أن حال الرسول أكمل وأقوى.

والجواب ما ذكرناه: أَن شيطان عمر كان يفر منه، فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه، وأَما الشيطان الذي تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أخذه وأسره، وجعله في قبضته كالأَسير، وأَين من يهرب منه عدوه، فلا يظفر به، إلى من يظفر بعدوه، فيجعله في أَسره وتحت يده وقبضته.

فهذا ونحوه مما احتج به أَرباب هذا القول." انتهى.

ثالثًا:

حال التائب بعد الذنب:

قال ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" (1/ 302):

"سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يحكي هذا الخلاف، ثم قال: والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فيصير خيرا مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة.

قال: وهذا بحسب حال التائب بعد توبته، وجده وعزمه، وحذره وتشميره، فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب، عاد خيرا مما كان وأعلى درجة، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته، وكان منحَطًّا عنها.

وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة" انتهى.

وقد ضرب ابن القيم رحمه الله للسائرين في التوبة مثالاً، وقال:

"وقد ضُرِب لذلك مثل آخرُ؛ برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول، لا يلوي على شيء في طريقه، فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا، يريد تعويقه عن الصلاة، فله معه حالان:

أحدهما: أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة، فهذه حال غير التائب.

الثاني: أن يجاذبه على نفسه، ويتفلت منه، لئلا تفوته الصلاة.

ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون سيرُه جَمْزا ووثبا، ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة، فربما استدركه وزاد عليه.

الثاني: أن يعود إلى مثل سيره.

الثالث: أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا، فيفوته فضيلة الصف الأول، أو فضيلة الجماعة وأول الوقت، فهكذا حال التائبين السائرين سواء" انتهى من " مدارج السالكين" (1/303).

وانظر: فتوى رقم: (222686).

وقد بحث ابن القيم رحمه الله اختلاف العلماء في مسألة: وهي أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله، ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه، ثم تاب من ذنبه، هل يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رجع، رجع إلى أنزل من مقامه ونقص من رتبته؟ أو يعود خيرا مما كان؟

ينظر: "طريق الهجرتين" (2/ 506).

رابعًا:

ما الذي ربحه من اجتنب الذنب؟ وما الذي خسره التائب؟

من اجتنب الذنب ابتداءً ربح:

السلامة من آثار المعصية.

صفاء القلب من شوائبها.

دوام الطاعة بلا انقطاع.

علو المرتبة بلا حاجة إلى نزول وعودة.

أما التائب فقد نال المغفرة، ولا يقال: خسر، لكن قد حصل له بعض الأمور:

فقد فاته حُسن الطاعة المستمرة لو لم يذنب أصلًا.

عرّض نفسه لذل المعصية وأثرها.

قد لا يعود إلى درجته الأولى إلا بصدق التوبة وكثرة العمل الصالح.

ثم أما بعد ذلك، وقبل ذلك؛ فلا معنى للدخول بين الله وعباده، والحجر على أرحم الراحمين، في رحمته، وعطائه لمن يعطيه من عباده.

وقد دعا الله عباده إلى الدخول في رحمته، ورغبهم في جنته، فقال: سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ [الحديد: 21].

وقال سبحانه: مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ [فاطر: 2].

ولما احتج اعترض أهل الكتاب على عطاء الله الواسع لهذه الأمة المرحومة؛ عملوا قليلا، وأُجروا كثيرا؛ ردهم الله جل جلاله إلى عدله التام، الذي لا يخرج عنه أحد من خلقه، مؤمنهم، وكافرهم؛ فلا يظلم ربك أحدا. وأما الفضل؛ فذلك بيده، وإلى مشيئته، سبحانه، يؤتيه من يشاء: وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ 107 [يونس: 107].

روى البخاري في "صحيحه" (2266) عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأجَرَ أُجَراءَ، فَقالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إلى نِصْفِ النَّهارِ على قِيراطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهارِ إلى صَلَاةِ العَصْرِ على قِيراطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصارَى، ثُمَّ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إلى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ على قِيراطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصارَى، فقالُوا: ما لَنا، أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطاءً؟! قالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قالُوا: لَا. قالَ: ‌فَذَلِكَ ‌فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشاءُ.

وينظر جواب السؤال رقم: (565195).

والله أعلم.
 

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android