هل يستوي في المنزلة التائب من ذنوب قليلة أو كثيرة؟

السؤال: 565195

هل يستوي المطيع على الدوام المرتكب لبعض المعاصي أحيانا وقليلا ثم يتوب مع كثير المعاصي التائب في المنزلة في الجنة؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

أنفع ما يقضي الإنسان فيه عمره ويشغله هو أن يعمل صالحًا يرضاه الله تعالى، ولا بد له من عمل دؤوب في تحقيق العلم بالله تعالى والتحقق بالاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وكل إنسان مع ذلك محتاج إلى التوبة كل يوم، فهي وظيفة عمرِ كلِّ عبدٍ، كما قال ابن القيم رحمه الله:

"قال تعالى وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قسم العباد إلى تائبٍ وظالمٍ، وما ثمَّ قسمٌ ثالثٌ البتة، وأوقعَ اسمَ الظالم على مَن لم يتب، ولا أظلمَ منه، لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه وآفات أعماله"، انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 178).

وأما الانشغال بالتفاضل بين التائب من ذنوب قليلة، والتائب من ذنوب كثيرة؛ فليس هو أولى ما ينشغل الإنسان به!

ويكفي العلم بأن الشريعة قد جاءت بأن التوبة الصادقة تمحو الذنوب كلها كأن لم تكن، وأن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه (4250) وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله.

بل فوق ذلك: أن الله جل جلاله، برحمته التي وسعت كل شيء، وعد من تاب وأصلح وأناب، وعمل الصالحات: أن يبدل له سيئاته حسنات. قال تعالى، بعد ما ذكر من وقع في كبائر الذنوب، من الشرك، وقتل النفس، والزنا، وغير ذلك: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 68-71]

والتائبون: درجات؛ بحسب تحقيقهم للتوبة، وصدقهم فيها، فليس الأمر مرهونًا بكثرة ذنوب العبد وقلتها فقط، بل بصدق توبته وإقباله على العمل الصالح بعدها.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

 (واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها، بناءً على أنّ التوبة تمحو أثر الذنب، وتجعل وجوده كعدمه، فكأنّه لم يكن؟ أو: لا يعود، بناءً على أنّ التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنّه لا يصل إليها؟

قالوا: وتقرير ذلك أنّه كان مستعدًّا - باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه - لصعود آخر، وارتفاعُه بجملة أعماله السالفة بمنزلة كسب الرجل كلّ يوم بجملة ماله الذي يملكه، وكلّما تضاعف المال تضاعف الربح.

فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاعٌ وربحٌ بجملة أعماله، فإذا استأنف العمل؛ استأنف صعودًا من نزول، وكان قبل ذلك صاعدًا من صعود، وبينهما بون عظيم.

قالوا: ومَثَلُ ذلك؛ رجلان مرتقيان في سلّمين لا نهاية لهما، وهما سواء، فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجةً واحدة، ثم استأنف الصعود، فإنّ الذي لم ينزل يعلو عليه، ولا بدّ.

وحكم شيخ الإِسلام ابن تيمية بين الطائفتين حكمًا مقبولًا فقال: التحقيق أنّ من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته، ومنهم من يعود إلى مثل درجته، ومنهم من لا يصل إلى درجته

قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها، وما أحدثته المعصيةُ للعبد من الذلّ والخضوع والإنابة، والحذر والخوف من الله، والبكاء من خشيته؛ فقد تقوى هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته، ويصير بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة. فهذا قد تكون الخطيئة في حقّه رحمةً، فإنّها نفتْ عنه داءَ العجب، وخلّصتْه من ثقته بنفسه وأعماله، ووضعتْ خدَّ ضراعته وذلّه وانكساره على عتبة باب سيّده ومولاه، وعرّفتْه قدرَه، وأشهدَتْه فقرَه وضرورتَه إلى حفظ سيّده له، وإلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجَتْ من قلبه صولة الطاعة، وكسرتْ أنفَه من أن يشمخ بها، أو يتكبّر بها، أو يرى نفسه بها خيرًا من غيره؛ وأوقفته بين يدي ربه موقفَ الخطّائين المذنبين ناكسَ الرأس بين يدي ربّه، مستَحْييًا منه، خائفًا وجلًا، محتقرًا لطاعته، مستعظمًا لمعصيته، قد عرف نفسَه بالنقص وَالذمّ، وربَّه منفردًا بالكمال والحمد والوفاء"، انتهى من "الجواب الكافي" (ص 207).

فإذا تبيَّن ذلك، علمت أنَّ التفاوت بين درجات التائبين كبير، ولا يتعلق الأمر بكثرة الذنوب وقلَّتها فقط، وأن الله تعالى هو من ينزل كل تائب منزلته يوم القيامة، ولا يظلم ربك أحدًا، وإلى الله ترجع الأمور.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب، بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس، فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل، ومنهم من يعود إلى ما كان، ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله.

والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب، وفيهم من هو مثله، وفيهم من هو دونه" انتهى، من "منهاج السنة النبوية" (2/ 434).

وقد أخبر الله تعالى أنه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.

فكذلك تختلف منازل التائبين في الجنة، بحسب منازلهم من التوبة والعمل الصالح، والذي يقضي بذلك هو رب العالمين الحكم العدل سبحانه، وأما ما وراء ذلك من البحث والنظر والسؤال؛ فلا طائل منه، ولم نكلف بعلمه.

وتراجع للفائدة أجوبة الأسئلة: (226270)، و(222686)، و(135085).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android