8

هل صحيح أن من أقرب الناس لله يوم القيامة أكثرهم جوعا في الدنيا؟

السؤال: 578859

أسئلة حول الحديث:
(أقرب عباد الله يوم القيامة الأشدُّ جوعًا وعطشًا)، ماذا يعني أن يكون أقرب عبد لله يوم القيامة؟ وكيف نعمل بمقتضى هذا الحديث؟

ملخص الجواب

تكلّف الجوع والعطش ليس من شريعة الإسلام، بل من الشريعة الأكل والشرب باقتصاد وتوسط؛ من غير اسراف ولا مخيلة، مع شكر المنعم سبحانه وتعالى وحمده على نعمه.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

هذا الخبر رواه الحارث بن أبي أسامة "بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث" (1 / 430)، والخطيب البغدادي في "الزهد" (ص116 - 120): عن الْوَلِيد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حدثنا حَيَّانُ الْبَصْرِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْبَلَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْتَلِجَ دُونَهَا.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا أَسْرَعُ مَا يُقْطَعُ بِهِ ذَلِكَ الطَّرِيقُ؟

قَالَ:

 

الظَّمَأُ فِي الْهَوَاجِرِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَنْ لَذَّةِ النِّسَاءِ [عند الخطيب: عَنْ لَذَّةِ الدَّنْيَا].

يَا أُسَامَةُ وَعَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ رِيحِ فَمِ الصَّائِمِ، تَرَكَ الطَّعَامَ ...

وَاعْلَمْ يَا أُسَامَةُ أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَمَنْ طَالَ حُزْنُهُ وَعَطَشُهُ وَجُوعُهُ فِي الدُّنْيَا، الْأَخْفِيَاءُ الْأَبْرَارُ ..

وهذا إسناد ضعيف جدا، وفيه من هو متهم بالكذب، فلهذا أدخل ابن الجوزي هذا الخبر في كتابه "الموضوعات"، فرواه من طريق الخطيب البغدادي، ثم قال رحمه الله تعالى عقبه:

" هذا حديث شبه لا شيء.

محمّد بن علي لم يدرك سعيد بن زيد، وحبان [حَيَّانُ] البصريّ هو حبَان [حَيَّانُ] بن عبد الله بن جبلة.

قال عمرو بن علي الفلاس: كان كذابا.

وأمّا الوليد بن عبد الرحمن، فقال يحيى: ليس بشيء، وقال أبو حاتم الرّازيّ: مجهول، وأكثر رجال هذا الإسناد لا يعرفون، وهو من عمل المتأخّرين " انتهى. "الموضوعات" (3 / 150).

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى:

" رواه الخطيب مطولا عن سعيد بن زيد، وهو موضوع. وأكثر رجال إسناده لا يعرفون " انتهى. "الفوائد المجموعة" (ص234).

وقد ذكر السيوطي ما يوهم أن له طريقا آخر، حيث قال رحمه الله تعالى:

" أبو نعيم في "الحلية"، والطبراني من طريق: الفضل بن الحباب، عن شاذان الفياض، عن أبي قحذم، عن أبي قلابة، عن ابن عمر، عن معاذ بن جبل، مرفوعا: ( أقرب الناس إلى الله، من طال جوعه وعطشه وخوفه، الأخفياء الأبرياء، الذين إذا شهدوا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا ) " انتهى. "تمهيد الفرش" (ص 53 — 54).

لكن الخبر في المصادر التي أشار إليها ليس فيها جملة: ( من طال جوعه وعطشه وخوفه ).

فقد روى هذا الخبر الطبراني في "المعجم الأوسط" (5 / 163)، و"المعجم الكبير" (20 / 36)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1 / 15): عن شَاذّ بْن الْفَيَّاضِ، قَالَ: حَدَّثَنا أَبُو قَحْذَمٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَحَبَّ الْعَبِيدِ إِلَى اللَّهِ الْأَتْقِيَاءُ الْأَخْفِيَاءُ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا شَهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوا أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ.

ثم الإسناد ضعيف؛ لأن أبا قحذم قد ضعّف.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

"النضر بن معبد أبو قحذم ...

قال: أبو حاتم يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة " انتهى. "المغني في الضعفاء" (2 / 698).

ثانيا:

حيث وردت الإشارة إلى مدح الجوع أو العطش أو نحو ذلك؛ فإنما يراد بها: تكلف ذلك في الصوم المشروع، فرضه ونفله؛ فهذه هي القربة التي يحبها الله في ذلك.

قال ابن رجب، رحمه الله: «وممَّا يُضَاعَفُ ثوابُه في شدَّة الحَرِّ مِن الطَّاعات الصِّيامُ؛ لما فيه من ‌ظمأ ‌الهواجِر؛ ولهذا كان معاذ بن جَبَل يتأسَّف عند موته على ما يفوتُه من ‌ظمأِ ‌الهواجر، وكذلك غيرُه من السَّلف. ورُوي عن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه كان يصوم في الصّيف ويُفطِر في الشتاء.

ووصَّى عمر رضي الله عنه عند موته ابنَه عبدَ الله، فقال له: عليك بخصالِ الإيمان، وسمَّى أوَّلَها الصَّوم في شدَّة الحر في الصيف. قال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحَرِّ الشديد. قيل له: ما حمَلَها على ذلك؟ قال: كانت تبادِرُ الموتَ.

وكان مُجمِّع التيميُّ يصوم في الصيف حتى يسقُطَ.

كانت بعضُ الصَّالحات تتوخَّى أشدَّ الأيام حَرًّا فتصومُه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إنَّ السِّعر إذا رَخُصَ اشتراه كُلُّ أحدٍ؛ تشيرُ إلى أنها لا تؤثِرُ إلَّا العَمَلَ الذي لا يقدِرُ عليه إلَّا قليلٌ من الناس؛ لشدَّته عليهم. وهذا من عُلوَّ الهِمَّة. كان أبو موسى الأشعري في سفينة، فسمعَ هاتفًا يهتِف: يا أهلَ المركب، قفوا، يقولُها ثلاثًا، فقال أبو موسى: يا هذا! كيف نقِفُ؟ أما ترى ما نحن فيه، كيف نستطيع وقوفًا؟ فقال الهاتفُ: ألا أخبركم بقضاءٍ قضاهُ الله على نفسِه؟ قال: بلَى، أخبِرنا، قال: فإنَّ الله قضى على نفسه أنَّه من عطَّش نفسَه لله في يومٍ حارٍ؛ كان حقًّا على الله أن يرويَه يومَ القيامة. فكان أبو موسى يتوخَّى ذلك اليومَ الحارَّ الشديدَ الحَرِّ، الذي يكاد الإنسان ينسلِخُ منه، فيصومُه. قال كعب: إنَّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: إنِّي آليت على نفسي أنَّه مَن عطَّشَ نفسَه لي أن أرويَه يومَ القيامة. وقال غيرُه: مكتوبٌ في التوراة: طُوبَى لمن جَوَّع نفسَه ليوم الشبعِ الأكبر، طوبَى لمن عطَّش نفسَه ليوم الرِّيِّ الأكبر». انتهى، من لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (ص551 ت السواس).

وأما حيث لا صوم؛ فلم نؤمر شرعا بتكلّف الجوع والعطش، فلا حرج على المسلم أن يأكل ويشرب ما شاء من المباحات لكن باقتصاد من غير اسراف ولا كبر ولا بطر.

قال الله تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ   الأعراف (31 - 32).

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" وقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الآية، قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا .

وقال البخاري: قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:( ‌كُلْ ‌مَا ‌شِئتَ، وَالْبَسْ مَا شِئتَ مَا أَخْطَأَتْكَ خصلتان: سَرَفٌ ومَخِيلَةٌ ).

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ( أحَلَّ اللهُ الأكلَ والشربَ ‌ما ‌لم ‌يكنْ ‌سَرَفًا أو مَخِيلةً )، إسناده صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُرى ‌نِعْمَتُهُ ‌عَلَى ‌عَبْدِهِ ) ... " انتهى. "تفسير ابن كثير" (4 / 24 – 25).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" والْمَخِيلَةُ بوزن عظيمة: وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر.

وقال بن التين: هي بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر، قال والْخُيَلَاءُ... التكبر.

وقال الراغب: الخيلاء: التكبر؛ ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه...

قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد، في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة، فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال.

والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس " انتهى. "فتح الباري" (10 / 253).

فالمسلم إذا أكل وشرب باعتدال، بحيث لا يضر بدنه ولا يضر دينه بالأكل الكثير الذي يقعده عن المنافسة في الخيرات، وشكر الله على نعمه عليه، فهو بهذا لا يبعد عن الله تعالى، بل يرضى الله تعالى عنه.

روى الإمام مسلم (2734): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا.

الخلاصة:

الخبر: ( أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَنْ طَالَ حُزْنُهُ وَعَطَشُهُ وَجُوعُهُ فِي الدُّنْيَا )، هو خبر لا يصح إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده من هو متهم بالكذب، لذا نص أهل العلم على أنه خبر موضوع مكذوب.

وتكلّف الجوع والعطش ليس من شريعة الإسلام، بل من الشريعة الأكل والشرب باقتصاد وتوسط؛ من غير اسراف ولا مخيلة، مع شكر المنعم سبحانه وتعالى وحمده على نعمه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" فالأمر المشروع ‌المسنون ‌جميعه ‌مبناه على العدل والاقتصاد، والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها، كالفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة؛ فمن كان كذلك فمصيره إليه إن شاء الله تعالى، هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها، مثل الجوع والسهر والمشي " انتهى. "مجموع الفتاوى" (25 / 283).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android