هذا الحديث صححه جمع من أهل العلم، وبعض رواياته تشير إلى أن هذا العتق متعلق بالأحياء.
هل حديث: ( وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ ) يشمل الأحياء والأموات؟
السؤال: 566879
هل يكون العتق من النار في رمضان للحي والميت سواء، يعني هل أستطيع أن أدعو لأمي وأبي المتوفيين بالعتق من النار في رمضان؟
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد وردت عدة روايات تنص على أن لله تعالى عتقاءَ في رمضان.
فروى الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وغيرهما: عن أَبي بَكْرِ بْن عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ ).
لكن الترمذي حكم بغرابة هذه الرواية، وكذا البخاري نص على أنها مرجوحة.
قال الترمذي رحمه الله تعالى، عقب الحديث:
" حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ.
وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ؛ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ " انتهى.
وحكم الترمذي على الحديث بالغرابة يفهم منه التضعيف، كما قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" وقد ضَعَّفَ أبو عيسى هذا الحديث، وذكر أنّ الصّحيح منها رواية الأَعْمَش عن محمّد [لعل الصواب مجاهد من قوله] " انتهى. "المسالك" (4/243).
والمتفق عليه من حديث أبي هريرة إنما هو بدون زيادة العتق، روى البخاري (1899)، ومسلم (1079): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ )، واللفظ لمسلم.
وقد وردت روايات أخرى بلفظ العتق من غير حديث أبي هريرة، لكن مدارها هو نفس مدار حديث الترمذي السابق على الأعمش.
كرواية ابن ماجه (1643): عن أبُي بَكْرِ بْن عَيَّاشٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ لِلَّهِ عز وجل عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ).
وقد بيّن الدارقطني على أن هذه الروايات: هي رواية واحدة وقع اختلاف في سياق أسانيدها، حيث سُئِل رحمه الله تعالى:
" عَنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبَلَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَللَّهِ عُتَقَاءٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنَ النَّارِ).
فَقَالَ: يَرْوِيهِ الْأَعْمَشُ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:
فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أبي صالح، عن أبي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ.
وَعِنْدَهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " انتهى. "علل الدارقطني" (10 / 164).
وهذا الوجه الذي رجّح الدارقطني أنه المحفوظ، هو نفس الوجه الذي استغربه الترمذي، ورآه البخاري أنه مرجوح، وأن الصواب أنه مقطوع من قول مجاهد، كما سبق في كلام الترمذي رحمه الله تعالى.
وقد ورد خبر العتق من غير طريق الأعمش، لكن أسانيدها لا تخلو من ضعف.
كرواية الطبراني في "المعجم الأوسط" (8 / 116): عن ابْن لَهِيعَةَ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ كُلُّهَا، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَسُلْسِلَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ عِنْدَ وَقْتِ كُلِّ فِطْرٍ يَعْتِقُهُمْ مِنَ النَّارِ ).
لكن في إسناده ابن لهيعة، وقد ضْعِّف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"عبد الله بن لهيعة أبو عبد الرحمن الحضرمي الفقيه قاضي مصر: ... ضُعِّف.
وقال أبو داود: سمعت أحمد، يقول: من كان مثل بن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وإتقانه وضبطه؟
قلت: العمل على تضعيف حديثه" انتهى. "الكاشف" (1/590).
وقد خالفه غيره في إسناده.
قال الطبراني رحمه الله تعالى، عقب الحديث:
" تَفَرَّدَ بِهِ: ابْنُ لَهِيعَةَ، وَرَوَاهُ النَّاسُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " انتهى.
وذهب جمع من أهل العلم إلى تصحيح هذه الروايات أو تحسينها.
فعلى القول بصحتها أو حسنها، فظاهر الروايات السابقة، يفهم منها أن العتق لفضيلة الشهر، وليس بسبب الصوم.
قال مظهر الدين الزيداني رحمه الله تعالى:
"قوله: ( ولله عُتَقاء من النار )؛ أي: ويُعتق الله عبادا كثيرا من النار؛ لحُرمةِ هذا الشهر " انتهى. "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/12).
فعلى هذا الاطلاق، قد يقال إن العتق ورد مطلقا وليس متعلقا بالصوم، فيعم الموتى والأحياء.
لكن وردت رواية تشير بوضوح إلى أن العتق متعلق بالأحياء لا الأموات.
فروى الإمام أحمد في "المسند" (12/420)، قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - هُوَ شَكَّ، يَعْنِي الْأَعْمَشَ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ).
ومن صحح روايات العتق، يصحح هذه الرواية.
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
" رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح " انتهى. "مجمع الزوائد" (10/216).
وقال محققو المسند:
"إسناده صحيح على شرط الشيخين. والشك في صحابي الحديث لا يضر " انتهى.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
" ( إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ ) أي من النار كانوا قد صاروا أرقاء لذنوبهم، فأعتقتهم الرحمة، ( فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ ) من الذين أعتقوا، ( دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ )؛ كأن المراد بعد الإعتاق ويحتمل قبله " انتهى. "التنوير شرح الجامع الصغير" (4/35).
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" ( ولله عُتَقَاءُ من النّار )، اعلموا -وفقكم الله وَوَفَّقَ لكم المُعَلِّم- أنّ لله سبحانه عتقاء من النّار في كلّ ليلة ويوم، وفي كلّ ساعة من كلّ شهر، ولعتقه أسباب من الطّاعات، فللَّه عتقاء من النّار بالتّوحيد، وبالصّلاة، وبالزّكاة، وبالصّيام، فعتقاء رمضان بثواب الصّيام وبركته، وفي الحديث الصّحيح: ( والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ برهانٌ، والصَّبْر ضيَاءٌ والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليك، كلُّ النَّاس يَغْدُو، فَبَائِعٌ نفسَهُ فَمُعتِقُها أَوْ مُوبِقُها )، فهذا الحديث يُفَسِّر لك معنى قوله: ( عتقاء ) والحمد لله " انتهى. "المسالك في شرح موطأ مالك" (4/249).
الخلاصة:
هذا الحديث صححه جمع من أهل العلم، وبعض رواياته تشير إلى أن هذا العتق متعلق بالأحياء.
وإذا قدر أن هذا العتق إنما هو فضيلة للصائمين، فذلك لا يعني أن المسلمين الموتى لا يدركهم العتق بأسباب أخرى كدعاء أقاربهم وإخوانهم.
فيشرع للمسلم أن يدعو لوالديه بالرحمة والعتق من النار.
قال الله تعالى: ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء/24.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا ) أي: في كبرهما وعند وفاتهما " انتهى. "تفسير ابن كثير" (5 / 64).
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟