أولا:
قال الله تعالى في سورة البقرة وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة/ 54، 55].
ففي هاتين الآيتين الكريمتين نلاحظ أن اتخاذ بني إسرائيل، ثم التوبة عليهم، (ذكر) أولاً، وانتهت قصته. ثم في الآية التالية (ذكر) طلبهم للرؤية، وما ترتب عليه من أن الصاعقة قد أخذتهم.
وحتى نقطع نصف الطريق نحو الجواب، نؤكد على تعبيرنا السابق: أن الآيات قد (ذكرت) ... ثم (ذكرت)؛ فالترتيب بين الوقائع هنا: ترتيب في (الذكر)، وليست ترتيبا زمانيا بحسب الوقائع؛ فإن هذا لا دليل عليه، ولا تقتضيه ألفاظ الآية، ولا تدل عليه أصلا؛ والترتيب (الذكري): لا يجب أن يكون على وَفق التريب الوقوعي (الوجودي).
انظر: "تفسير أبي السعود" (4/127)، "حاشية الشهاب" (8/255).
نعم؛ لو لم يكن من شأن القصة إلا هذه الآيات، لكان ذلك مجرد قرينة؛ أن الأصل أن ما وقع أولا، يذكر أولا، ولا يخالف في ترتيبه إلا لحكمة، أو نكتة علمية، أو بيانية.
انظر: "تفسير ابن عاشور" (6/130).
وأما القصة في سورة النساء فقد ذكرت هكذا: فَقالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهرَةً فَأَخَذَتهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلمِهِم ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجلَ مِن بَعدِ ما جاءَتهُمُ البَيِّناتُ [النساء: ١٥٣].
وهنا نجد أن دلالة الآية على أن طلب الرؤية قد كان أولا، ثم تلاه ـ بزمن لا نعلمه ـ قصة اتخاذ بني إسرائيل العجل ربًّا يعبدونه.
وقد دل على هذا الترتيب الزماني، ترتيب القصتين بحرف العطف (ثم)، الذي يدل في لسان العرب على الترتيب، والتراخي بين القصتين.
قال أبو القاسم الزجاجي: " ثمَّ بِالضَّمِّ حرف عطف يدل على أَن الثَّانِي بعد الأول وَبَينهمَا مهلة" انتهى، من "حروف المعاني والصفات" (16).
وقال المرادي: "(ثم): حرف عطف، يشرك في الحكم، ويفيد الترتيب بمهلة. فإذا قلت: قام زيد ثم عمرو، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة. هذا مذهب الجمهور، وما أوهم خلاف ذلك تأولوه. انتهى، من "الجنى الداني في حروف المعاني" (426).
ولهذا قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره (7/642):
"وأما قوله: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) [النساء/ 153] فإنه يعني: ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة -بعد ما أحياهم الله، فبعثهم من صعقتهم- العجل الذي كان السامري نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام ، إلها يعبدونه من دون الله" انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره (6/6):
"" فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً " أي عياناً، وقد تقدم في" البقرة". و"جهرة" نعت لمصدر محذوف؛ أي رؤية جهرة، فعوقبوا بالصاعقة، لعظم ما جاءوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات.
قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) في الكلام حذف تقديره: فأحييناهم، فلم يبرحوا، فاتخذوا العجل،... (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)" انتهى.
وهذا أرجح القولين في الآيات الكريمة المذكورة؛ أن قصة الصعق وقعت أولا، ولهذا رتبت في آية النساء بحرف (ثم) الدال على الترتيب، والمهلة بين الحدثين.
وقد سبق أن ترتيب هاتين القصتين في آيات البقرة: هو ترتيب ذكري، وليس ترتيبا وجوديًّا زمانيا، بحسب وقوع كل قصة.
وإنما قدمت آيات البقرة في (الذكر) قصة اتخاذ العجل أولاً، وهي مؤخرة زمانا، كما دلت عليه آية النساء؛ لأن رتبة هذه القصة في الشناعة أعلى؛ فلا شك أن اتخاذ العجل إلها، أعظم شناعة، وأشد قبحا، وأدخل في الكفر والجراءة على رب العالمين، من مجرد طلب رؤية الله جهرة، أو تعليق الإيمان على ذلك؛ فإن هذا وإن دل على جلافتهم، وشدة تعنتهم، وإعناتهم؛ إلا أنه كله ممكن في نفسه، وليس هو – بكل حال – كما لو اتخذوا إلها من دون الله.
ينظر للفائدة: "حاشية الصبان على شرح الأشموني" (3/137).
وحينئذ، يبقى أن يقال: إذا كانت الصاعقة قد أخذتهم لما طلبوا أن يروا الله جهرةً؛ فكيف اتخذوا العجل بعد ذلك إلها؛ وهم قد صعقوا؟
وهذا جوابه سهل ميسور، فقد جاء في نص الآيات التي ذكرت القصة: أن الله جل جلاله قد أحياهم بعد هذه الصعقة، وكان لهم شؤون وتصرفات. قال الله تعالى: وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ 55 ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ 56 وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ [البقرة: 55-57].
ثانيا:
ما قدمناه هو على أظهر القولين في ترتيب وقائع القصة في آيات السورتين.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن اتخاذهم العجل كان قبل طلبهم رؤية الله والصاعقة، على وَفق الترتيب الذكري في آيات سورة البقرة.
وعلى هذا القول، يكون الجمع بين القصتين، بأن (ثم) في آيات سورة النساء خرجت عن "موضوعها" في اللغة، ولم تفد الترتيب الزماني، على نحو قول الشاعر:
إِن من سَاد ثمَّ سَاد أَبوهُ ... ثمَّ قد سَاد قبل ذَلِك جده
فقيل: "ثم" فيه لترتيب الإخبار، لا لترتيب الحكم، وأنه يقال: "بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب"، أي: ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب، وقيل: إن" ثم" بمعنى الواو، وقيل غير ذلك، وأجاب ابن عصفور عن البيت بأن المراد أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب، والأب من قبل الابن.
انظر: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" (ص: 159)، "شرح الأشمونى لألفية ابن مالك" (2/366)، "أوضح المسالك" (3/328).
وإلى هذا القول ذهب ابن الأنباري، وهو ظاهر تقرير ابن الجوزي رحمهما الله، واختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 493)، "تفسير سورة البقرة"، لابن عثيمين (1/ 191)، (3/ 518)
والقول الراجح: هو ما قدمناه أولا، وهو الذي تدل عليه آية سورة النساء، ولا موجب للعدول عن دلالة (ثم).
وبكل حال؛ فلا إشكال بين الآيات، والجواب عما استشكله السائل ظاهر، على أي من القولين.
والله أعلم.