حفظ
  • قائمة جديدة
المزيد
    حفظ
    • قائمة جديدة
57123/شوال/1446 الموافق 21/أبريل/2025

هل آية وجوب مصابرة المسلم لعشرة في الجهاد منسوخة؟

السؤال: 545709

هل هناك تناقض بين آية (إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ"و اية "ٱلۡأن خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ)، فهل الله كان لا يعلم أن فيهم ضعفا، ثم علم، أرجو إجابة شافية؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

يقول الله تبارك وتعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.

القرآن كلام الله، تنزيل العليم الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، فلذلك لا يقع فيه تناقض واختلاف أبدًا، فكل من تدبره فعلم معناه؛ لا بد أن يتبيَّن له ذلك على وجه القطع واليقين، فلذلك لم يستطع واحد من الكفار بالقرآن أن يشرح تناقضًا واحدًا ولا اختلافًا بين آيات القرآن، منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، فهو كلام الحكيم العليم الخبير.

يقول الشيخ السعدي: "ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبدُ إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدِّق بعضُه بعضًا، ويوافق بعضُه بعضًا"، انتهى من "تفسيره" (ص189).

ويقول تعالى عن القرآن: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، قال السعدي في "تفسيره" (ص750): "تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في خلقه وأمره، يضع كل شيء موضعه، وينزله منازله، حَمِيدٌ على ما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإفضال، فلهذا كان كتابُه مشتملًا على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار، التي يحمد عليها"، انتهى.

ثانيًا:

يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ، لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ.

ويقول تعالى عن الكفار يوم القيامة: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

فالله سبحانه العليم الحكيم: علام الغيوب، يعلم ما كان وما سيكون، والأدلة على ذلك من العقل والشرع أكثر من حصرها في هذه الإجابة، وهذا من الإيمان الواجب بالقدَر.

لذلك قال ابن تيمية رحمه الله: "فأما إثبات علمه وتقديره للحوادث قبل كونها؛ ففي القرآن والحديث والآثار ما لا يكاد يحصَر، بل كلُّ ما أخبر الله به قبل كونه فقد علمه قبل كونه، وهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد أخبر بذلك"، انتهى من "جامع الرسائل ت. محمد رشاد سالم" (1/ 183).

ثالثًا:

قد ينعم الله تعالى على عباده ويرحمهم، فينسخ ويمحو حُكمًا من الأحكام التي كان تعالى كلَّفهم بها، ويُثبِت بدلًا منه حكمًا أخفَّ وأرفق بهم، وذلك مثل الصلاة التي فُرضت أول ما فُرضت خمسين صلاة، ثم خفف الله عنا وجعلها خمس صلوات في اليوم والليلة، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه البخاري (349)، ومسلم (162)، ويراجع للفائدة حول الحديث إجابة السؤال: (298993).

ومن ذلك ما في الآيتين المسئول عنهما.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/ 434 ط. عالم الفوائد): "اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف ... ومثال نسخ الأثقل بالأخف: نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الآية، بأخف منه وهو: مصابرة المسلم اثنين منهم، المنصوص عليه في قوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الآية"، انتهى مختصرًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوي" (20/ 199): "الإيجاب والتحريم: قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة، فالأول: كإيجاب الإيمان والمعروف؛ وتحريم الكفر والمنكر ... والعقوبة كقوله: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ...

وأما المحنة فمثل قوله: إن الله مبتليكم بنهر الآية، ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط: نعمةً، وهذا كثير كقوله: الآن خفف الله عنكم وقد تقدم نظائرها"، انتهى مختصرًا.

وقد فسّر ابن عباس رضي الله عنهما معنى التخفيف في الآية، فقال: "لما نزلت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقَّ ذلك على المسلمين، حين فرض عليهم أن لا يفرَّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، فلما خفف الله عنهم من العدة؛ نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم"، انتهى، ورواه البخاري (4653).

وقال سعيد بن جبير رحمه الله: "كان يومَ بدر؛ جعل الله على المسلمين أن يقاتل الرجلُ الواحدُ منهم عشرة من المشركين ليقطع دابرهم، فلما هزم الله المشركين وقطع دابرهم؛ خفَّف على المسلمين بعد ذلك، فنزلت: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ يعني: بعد قتال بدر، وعلم أن فيكم ضعفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا يعني: يقاتلوا مِائَتَيْنِ من المشركين"، انتهى من "تفسير ابن أبي حاتم" (9143).

ولذلك قال ابن شبرمة رحمه الله: "وأُرى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مثلَ هذا" انتهى؛ يعني: إن كانا رجلين أمرَهما ونهاهما، وإن كانوا ثلاثةً فهو في سعَة من تركهم، وينظر "صحيح البخاري" عقب الحديث (4652)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (9139).

والمقصود أن الله تعالى كلَّف عباده المجاهدين في الآية الأولى أن يُصابِر ويقاتل الواحدُ منهم إلى عشرةٍ من الكفار، فيُقدِمُ المسلمون على قتال الكفار وإن كان جيش الكفار تعداده عشرة أضعاف جيش المسلمين، فبهذا مع بقية المطلوب في الجهاد؛ ينصر الله المسلمين على الكافرين، ثم خفَّف تعالى عنهم بالآية الثانية، فصار التكليف أن يصابر الواحدُ من المسلمين اثنين لا عشرة، وينظر "تفسير السعدي" (ص325).

وبذلك يتبيَّن أنه لا تعارض ولا إشكال بين الآيتين من الأصل، ولا وجه للقول بأن بينهما تناقضًا، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله بعد أن روى شرح ابن عباس السابق: " وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله، وقد بيَّن الله هذا في الآية، وليست تحتاج إلى تفسيرٍ"، انتهى من "الرسالة" (ص127).

رابعًا:

قوله عزَّ وجلَّ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، ليس معناه أن الله تعالى قد علم في ذلك الوقت خاصة، ولم يكن يعلم ذلك قبله أن في المسلمين ضعفًا، فإن الله تعالى يعلم ما كان وما سيكون، وهو تعالى يعلم من خلقَ، وهو اللطيف الخبير كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؛ وحاشاه سبحان أن يخفى عليه شيء في الأرض أو في السماء.

لكن معنى الآية: الآن خفف الله عنكم إذ علمَ الله تعالى أن فيكم ضعفًا، فالواو في قوله تعالى وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ليست واو العطف، بل هي واو الحال، فليس المعنى: الآن خفف الله عنكم، والآن علم الله أن فيكم ضعفا.

وهي مثل الواو في قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ الآية، فالواو في قوله تعالى: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وكذلك في قوله تعالى: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، كلاهما واو الحال ليست واو العطف، والمعنى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة، والحال أنه أصابه الكبر وأن له ذرية ضعفاء)، وليس المعنى: أيود أحدكم أن تكون له جنة، ويود أنه أصابه الكبر، ويود أن له ذرية ضعفاء؟! فالواو واو الحال، ليست واو العطف، وينظر "تفسير ابن عطية" (1/ 360).

فمعنى الآية على ذلك: الآن خفف الله عنكم، والحال أنه علِمَ تعالى مِن قَبلُ أن فيكم ضعفًا.

ولذلك قال ابن عاشور في "تفسيره" (10/ 70) عن الآية محل السؤال:

"الوقت المستحضر بقوله: الآن هو زمن نزولها، وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين...

وجملةُ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا في موضع الحال، أي: خفف الله عنكم، وقد علم مِن قبلُ أن فيكم ضعفًا"، انتهى مختصرًا.

ومع أنه تعالى علمَ هذه المشقة وهذا الضعف من قبلُ، إلا أن هذا التخفيف قد تأخَّر إلى وقت نزول الآية، وقد ظهر من حالهم ما كانوا عليه من الضعف، واقعاً،  وعلمه الله سبحانه "موجودا" منهم، بعد أن كان في غيب الله الذي لا يعلمه إلا هو؛ وبهذه الحال التي وجدت، وترتب عليها التخفيف والتيسير؛ تظهر حكمة الله جل جلاله، ونعمته على عباده في التخفيف عنهم.

وهو تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، سبحانه.

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (295288).

والله أعلم

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

خيارات تنسيق النص

خط النص

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android