كيف نوفق بين تألم المقاتل من الجراحات وما صح أن الشهيد لا يجد ألما من مس القتل؟

السؤال: 540799

قرأت منذ فترة حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الشهيدُ لا يَجِدُ ألم القتْلِ إلَّا كما يَجِدُ أحدُكم مَسَّ القرصَةِ)، أي أن المجاهد عندما يُقتل لا يجد من الألم سوى كمسّ القرصة، ولكن كيف نوفق بين الحديث، وبين قصة الرجل الذي جاهد في غزوة خيبر عندما تعرض للجراحات وقتل نفسه ليموت بسبب شدة الألم فأصبح من أهل النار؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

روى الإمام أحمد في "المسند" (13 / 334)، والنسائي (3161)، والترمذي (1668)، وابن ماجه (2802): عن مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ ‌مَسِّ ‌الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ ).

وقال الترمذي رحمه الله تعالى: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ".

وهذا الحديث لا يعارضه ما رواه البخاري (3062)، ومسلم (111): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: " شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ).

فَلَمَّا حَضَرَ القِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ ‌قِتَالًا ‌شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي قُلْتَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ اليَوْمَ ‌قِتَالًا ‌شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ.

فقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِلَى النَّارِ).

قالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنا هُمْ على ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ على الجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقالَ:

(اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: (إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ).

ويظهر عدم تعارض هذين الخبرين من وجهين:

الوجه الأول:

أن حديث: (مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ ‌مَسِّ ‌الْقَتْلِ …)، متعلق بالجرح الذي يموت منه المجاهد في سبيل الله تعالى.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا استشهد في سبيل الله، فإن ما يصيبه من القتل يكون كالقرصة يعني كقرصة النملة أو الذرة أو ما أشبه ذلك؛ لأن الله تعالى يسهل عليه القتل، كما أنه يسهل عليه خروج الروح؛ لأن الروح تبشر برضوان من الله عز وجل وبالجنة، فيسهل عليها الخروج كما في غيرها من الأموات." انتهى. "شرح رياض الصالحين" (5 / 376).

وطالع لمزيد الفائدة في معنى الحديث، جواب السؤال رقم: (200037).

وحديث الذي قتل نفسه، فالجراحات التي أصابته لم يرد أنها كانت جراحات مميتة، وإنما وصفت بأنها شديدة.

وجراحات المجاهد غير المميتة لم يرد في الوحي ما ينص على أنها تكون غير مؤلمة، بل الوحي يشير إلى أنها كسائر الجراحات في الألم، كما في قوله تعالى:

( وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) النساء (104).

قال الواحدي رحمه الله تعالى:

"وقوله تعالى: ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ). الألم الوجع، وقد أَلِم، يَأْلَم، فهو آلِمٌ. قال ابن عباس: يريد يوجعون كما توجعون الجراح.

ونحو هذا قال غيره من المفسرين " انتهى. "التفسير البسيط" (7 / 65).

الوجه الثاني:

أن الحديث الأول نص على أن الذي لا يجد ألم القتل هو الشهيد، وليس كل من قتل في معركة مشروعة هو شهيد، بل لا بد أن تكون - مع ذلك - نيته في القتال خالصة لله تعالى، وألا يكون في قتاله عاصيا، بمقارفة المحرمات.

كما في حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ: ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَِنَّهُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) رواه مسلم (114).

ولهذا بوّب البخاري في "الصحيح"، فقال: " بابٌ: لا يَقُولُ: ‌فُلَانٌ ‌شَهِيدٌ.

قالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ) ، ( اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ) " انتهى.

ثم ساق الحديث (2898) وفيه قصة الذي قتل نفسه من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَقَى هو وَالمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إلى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَها يَضْرِبُها بِسَيْفِهِ، فَقالَ: ما أَجْزَأَ مِنَّا اليَوْمَ أَحَدٌ كَما أَجْزَأَ فُلَانٌ! فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَما إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ...).

ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ، وَذُبابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ...).

فقصة هذا الرجل تنص على أنه لم يكن شهيدا، إما لأنه لم يمت في سبيل الله تعالى وإنما مات بقتل نفسه.

وإما لأنه كان يظهر الإسلام ولم يكن مسلما؛ كما قد تشير عبارة حديث أبي هريرة: ( فقالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ )، وكذا العبارة في آخر الحديث: ( إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ).

وقد ورد في بعض الروايات النص على أنه كان منافقا؛ وهذا على القول بأن القصة واحدة.

قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، معلقا على حديث سهل بن سعد:

" هذا الرّجل من المنافقين واسمه: قُزْمَان، وهذه القصّة كانت يوم أحد.

الحجة فِي ذلك: أَنَّا قَرَأْنَا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الأَصَمِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: ( كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ: قُزْمَانُ، فَشَهِدَ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ - فَقَتَلَ سَبْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ - إِذَا رَآهُ قَالَ: " إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ "، فَاحْتَمَلَ إِلَى الدَّارِ حِينَ أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَقِيلَ لَهُ: أَبْشِرْ يَا قُزْمَانُ فَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ، فَقَالَ قُزْمَانُ: بِمَاذَا أُبَشَّرُ؟ مَا قَاتَلْتُ إِلا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي. فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْجِرَاحَةُ أَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ بِهِ رَوَاهِشَ يَدِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ! ) " انتهى. "الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة" (ص276).

الخلاصة:

حديث: ( مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ ‌مَسِّ ‌الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ ).

هذا الحديث متعلق بجرح الشهيد حال موته.

كما أنه لا يعم كل من قتل في معركة مشروعة، بل لا بد أن يكون قد حقق شرط الشهادة وهي أن تكون في سبيل الله تعالى وليس لأغراض دنيوية، فهذا شرط حصول فضل الشهادة.

كما روى البخاري (2803)، ومسلم (1876): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ - إِلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ ).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android