روى البخاري (1150)، ومسلم (784): عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رضي الله عنه، قالَ: " دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فقالَ: (ما هَذا الحَبْلُ؟)
قالُوا: هَذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ.
فقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشاطَهُ، فَإِذا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ).
وروى البخاري (1151) ومسلم (785): عن عائشَةَ رضي الله عنها قالَتْ: " كانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: (مَنْ هَذِهِ؟)
قُلْتُ: فُلانَةُ، لا تَنامُ بِاللَّيْلِ. فَذُكِرَ مِنْ صَلاتِها.
فقالَ: (مَهْ! عَلَيْكُمْ ما تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا).
وبوّب عليهما الإمام البخاري رحمه الله تعالى بقوله: " بابُ ما يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي العِبادَةِ ".
وهذه النصوص وأمثالها لا تتعارض مع ما تواتر من أمر الشرع بالمسارعة والمنافسة والاجتهاد في الخيرات.
وما قد يتبادر من التعارض مدفوع من أوجه:
الوجه الأول:
أن هذه الأحاديث لم تنه عن الاجتهاد، وإنما قيّدت الاجتهاد بأن يكون بمقدار المستطاع وبوقت النشاط؛ لأن الاجتهاد المنضبط بالاستطاعة والنشاط في الغالب: لا يمل منه العبد ويدوم مع مرور الأيام، أما الاجتهاد المتكلف فيه، فمن طبع البشر أن ينقطعوا عنه ولا يستمروا فيه، ولا شك عند العاقل أن الاجتهاد القليل الذي يدوم إلى الممات، أفضل وأصلح من الاجتهاد الكثير فترة من الزمن ثم ينقطع عنه العبد.
ولأجل هذا المعنى الظاهر، المتقرر، فقد ترجم الإمام البخاري عليه هذا الحديث: «بابُ ما يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي العِبادَةِ" "صحيح البخاري" (1/ 584).
وترجم عليه أبو عوانة في "مستخرجه" على صحيح مسلم: "بيانِ حظرِ الصلاةِ عنه الكَسَلِ والفُتُور، والحَمْلِ على النفس فيما فوق طاقتها، حتى يكون نشيطًا مُطِيْقًا لها" "مستخرج أبي عوانة" (6/ 212).
وترجم عليه ابن المنذر: "ذِكْرُ الأمر بالاقتصاد في الأعمال وترك الحمل على النفس ما لا تطيقه من الأعمال" انتهى، من "الأوسط لابن المنذر" (5/ 154).
قال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" إنما يكره التشديد في العبادة خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله: (خير الْعَمَلِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ )، وقد قال تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )، وقال تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )، فكره عليه السلام الإفراط في العبادة، لئلا ينقطع عنها المرء فيكون كأنه رجوع فيما بذله من نفسه لله، تعالى، وتطوع به " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (3 / 144).
وسُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" كيف نجمع بين حديث: ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ )، وبين: ( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ عز وجل أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )؟
الجواب: ما في منافاة؛ الإنسان يعمل بطاعة الله، ويجتهد، في العمل وإن كان قليلا، هذا خير له من كونه تارة يعمل وتارة ما يعمل، تارة يصلي الضحى وتارة ما يصلي، تارة يوتر وتارة ما يوتر، لا، يوتر ولو بواحدة أفضل، ولو كل ليلة، أفضل من كونه ليلة يوتر بخمس، وليلة ما يوتر، أو ليلة يوتر بسبع وليلة ما يوتر، لا، كونه يوتر بواحدة أو ثلاث دائما، دائما؛ أفضل من كونه بعض الليالي يوتر وبعض الليالي ما يوتر " انتهى. "فتاوى الدروس"، من "موقع الشيخ".
فالحاصل: أن الاجتهاد الصحيح، هو بالمقدار الذي يمكن أن يستمر فيه العبد إلى مماته.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" والشأن كل الشأن في الاستقامة على الصراط المستقيم من أول السير إلى آخره " انتهى. "المحجة في سير الدلجة – ضمن مجمع رسائل ابن رجب" (4 / 426).
الوجه الثاني:
أن الاجتهاد والمنافسة في الأعمال متعلق بإحسانها واخلاصها والخشوع فيها، أشد من تعلقه بكميتها وكثرتها، فالاجتهاد في صلاح القلب وخشوعه وإخلاصه، هو الذي سبق به السابقون.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
"وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل، صوابا على متابعة السنة. وبكثرة معارف القلوب وأعمالها.
فمن كان بالله أعرف وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحبّ وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملا بالجوارح.
وإلى هذا المعنى الإِشارة في حديث عائشة رضي الله عنها بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أنّه لن يُدْخِل أحدًا منكم عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ) …
ولهذا قال بعض السّلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره " انتهى. "المحجة في سير الدلجة – ضمن مجمع رسائل ابن رجب" (4/ 412 - 413).
وقال رحمه الله تعالى:
" فأفضل الناس من سلك طريق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه، في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية، فإنّ سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان " انتهى. "المحجة في سير الدلجة – ضمن مجمع رسائل ابن رجب" (4 / 415).
والذي يتعبد بالنوافل في أوقات فتوره وملله، لا يكاد يتحقق له الخشوع والقنوت في عبادته.
الوجه الثالث:
أن الأمر بالصلاة وقت النشاط، والراحة عند الفتور، قد ورد في حالة مخصوصة: وهي حالة غلبة النعاس على المصلي، والفتور عليه، حتى ليكاد يستعجم لسانه، أو لا يدري ما يقول في صلاته. قال أبو العباس القرطبي في "المفهم" (2/415): " الحديث: نبه في آخره على علّة ذلك؛ وهو أنه توقع منه ما يكون منه من الغلط فيما يقرأ أو يقول. انتهى.
ولأجل ذلك؛ أمره أن يترفق بنفسه، ويعطيها حاجتها من الراحة، ليهيئها إلى وقت الجد في العبادة.
وفي ترجمة "صحيح مسلم" على هذا الحديث إشارة إلى أن ذلك فتور عارض، وأمر بالترفق بنفسها، ليعدها إلى نشاط القيام بعده. قال: "بَاب أَمْرِ مَنْ نَعَسَ فِي صَلَاتِهِ، أَوِ اسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوِ الذِّكْرُ بِأَنْ يَرْقُدَ أَوْ يَقْعُدَ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ" انتهى، "صحيح مسلم" (1/ 541 ت عبد الباقي).
قال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " ففي هذا دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعمق وأن يتنطع في العبادة، أن يكلف نفسه ما لا تطيق، بل يصلي ما دام نشيطاً، فإذا تعب فليرقد ولينم، لأنه إذا صلى مع التعب تشوش فكره وسئم ومل وربما كره العبادة، وربما ذهب ليدعو لنفسه فإذا به يدعو عليها، فلو سجد وأصابه النعاس ربما أراد أن يقول: رب اغفر لي، قال: رب لا تغفر لي، لأنه نائم، فلهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بحل هذا الحبل، وأمرنا أن يصلي الإنسان نشاطه، فإذا تعب فليرقد.
وهذا وإن ورد في الصلاة فإنه يشمل جميع الأعمال، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، بل عامل نفسك بالرفق واللين، ولا تتعجل الأمور، الأمور ربما تتأخر لحكمة يريدها الله عز وجل، لا تقل أنا أريد أن أتعب" انتهى، من "شرح رياض الصالحين لابن عثيمين" (2/ 228).
الوجه الرابع:
أن الحديث ليس تشريعا للكسل، والتواني؛ بل هو تحذير من التشدد والتعمق في الدين، وفي عبادة الله، بما يؤول بصاحبه إلى نفرة نفسها منها، وانقطاعه عنها. قال ابن الملك: "فإن الله لا ينبغي أن يناجَى عن ملالة"انتهى، من "المفاتيح شرح المصابيح" (2/172).
وخير الأمور الوسط. قال العز ابن عبد السلام، رحمه الله: " وخير الأمور أوسطها، فلا يكلف الإنسان نفسه من الخيور والطاعات إلا ما يطيق المداومة عليه ولا يؤدي إلى الملالة والسآمة، وقال عليه السلام في قيام الليل: ليصل أحدكم نشاطه فإذا وجد كسلا أو فتورا فليقعد - أو قال فليرقد - ومن تكلف من العبادة ما لا يطيقه، فقد تسبب إلى تبغيض عبادة الله، ومن قصر عما يطيقه، فقد ضيع حظه مما ندبه الله إليه وحثه عليه". انتهى، من "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 206).
الوجه الخامس:
أنواع القرب لا تكاد تحصى فالعبد إذا ذهب نشاطه عن الصلاة، فلا يعني هذا أنه يجلس عاطلا، فأبواب الخير التي يمكن عملها حتى مع فتور النفس كثيرة، كالذكر ولو مضطجعا، وكالتفكر في خلق الله تعالى.
قال الله تعالى:
( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران/191.
وقال الله تعالى:
( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) النساء/103.
ومطالعة كتب العلم، أو زيارة قريب أو عيادة مريض أو مؤانسة الأهل، أو اعانة ضعيف، أو الاستراحة بنية تنشيط النفس لفعل الخير، وغير هذا من أبواب الخير.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فمن تنوعت أعماله المرضية لله المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يلتذّ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا، وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها والالتذاذ بنيلها هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها في هذه الدار " انتهى. "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص68).
الخلاصة:
الأمر بالصلاة قدر النشاط لا يتعارض مع ما هو معلوم من الشرع من الترغيب في الاجتهاد والتنافس في العبادات؛ لأن الصلاة قدر النشاط هو ضبط للاجتهاد المحمود، و هو ما يكون بالمقدار الذي يمكن تأديته على الوجه الأحسن مع المداومة عليه، كما أن الاجتهاد لا يكون فقط بالاكثار من تنفل واحد، بل يستحسن أيضا للعبد أن ينوع في نوافله؛ فإذا فترت نفسه من عبادة نقلها إلى عبادة أخرى يسيرة عليها.
وطالع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (161551).
والله أعلم.