يباح المدح إذا كان باعتدال، وبحق، ، وأُمن على الممدوح من الاغترار، ويكون مذموما عند الإكثار منه والمبالغة فيه أو كان مدحا بالباطل.
متى يكون المدح في الوجه مأذونا فيه؟
السؤال: 531916
هل يجوز المدح في الوجه؛ لأن حديث رمي التراب يقول ممنوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلًا يمدح شخصًا قال: (قطعت ظهره، ويلك! إذا أراد أحدُكم فليقل: أحسبه كذا والله حسيبه)، وقال: (إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التُّراب)، لكن يوجد حديث آخر الرسول صلى الله عليه وسلم مدح فيه عمر، مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر: (إنَّك إذا سلكتَ فجًّا سلك الشيطانُ فجًّا غير فجِّك)، فكيف لا يمكن المدح بالوجه والرسول صلى الله عليه وسلم مدح عمر رضي الله عنه؟
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد ثبت مدح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه رضوان الله عليهم في حضورهم، ومن ذلك:
ما رواه البخاري (3683)، ومسلم (2396): عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِيهًا يا ابْنَ الْخَطَّابِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما لَقِيَكَ الشَّيْطانُ سالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ.
وأيضا صح ذم المدّاحين.
كما في حديث الْمِقْدَاد، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ رواه مسلم (3002).
وهذه الأخبار لا تعارض بينها، كما نص على ذلك أهل العلم؛ وذلك بأن يحمل المدح المنهي عنه على ما يؤدي إلى مفسدة.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" واعلم أن المدح يشتمل على آفتين:
إحداهما: تتعلق بالمادح، وهي الكذب الذي لا يكاد يُتخلص منه.
والثانية: تتعلق بالممدوح، وهي تحريكه إلى التكبر بفضائله، والطبع كاف في جلب الِكبر وغيره من الشر، فيحتاج إلى مقاومة تضاده، فإذا جاء المدح أعان الطبع فزاد الفساد " انتهى. "كشف المشكل" (1 / 412).
فيُنهى عن المدح الذي يكون على سبيل المبالغة، والذي لا يكاد يسلم فيه صاحبه من الكذب.
ولذا بوّب البخاري بابا، قال فيه: " بابُ ما يُكْرَهُ مِنَ الإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ، وَلْيَقُلْ ما يَعْلَمُ ".
ثم ساق فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قالَ: " سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُثْنِي على رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ، فَقالَ: أَهْلَكْتُمْ -أَوْ: قَطَعْتُمْ- ظَهْرَ الرَّجُلِ رواه البخاري (2663)، ومسلم (3001).
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" الإِطْرَاء: مجاوزة الحدّ في المدح، والكذب فيه " انتهى. "النهاية" (3 / 123).
فإذا كان المدح باعتدال، ولا كذب فيه، فهذا مأذون به.
بّوب البخاري في "الصحيح"، قال: " بابُ مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ ".
ثم ساق حديث سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ ذَكَرَ فِي الإِزَارِ مَا ذَكَرَ، قالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ؟ قالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ رواه البخاري (6062).
لكن الأدب في ذلك أيضا: لا يجزم القول بالمِدحة، بل يقول: أحسبه كذا، والله حسيبه. كما في حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قالَ: أَثْنَى رَجُلٌ على رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ. مِرَارًا، ثُمَّ قالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلا أُزَكِّي على اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذا. إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ رواه البخاري (2662) ومسلم (3000).
وكذا ينهى عنه إذا كان هذا المدح يظن به أن يقود إلى إدخال فساد على دين الممدوح، بأن يغتر بذلك فيصيبه الكبر والغرور. كما في حديث أبي بكرة السابق، ففيه: قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ.
قال ابن المنير رحمه الله تعالى:
" بيّنَ بهذه التّرجمة، وبما اشتملت عليه: أَن الحديث الأول وهو قوله: ( قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ )، إنّما كان لأنهم جازفوا في الثّناء، أَو لأنّ الممدوح كان ممّن يفتتن، لأنّه صلى الله عليه وسلم ههنَا أثنى على أبي بكر بسلامته من الخيلاء، لأنّه عَلِم منه ذلك، وأبو بكر لا يفتتن، وما لأحد بعد النّبي صلى الله عليه وسلم الجزم " انتهى. "المتواري على أبواب البخاري" (ص360).
وقال الباجي رحمه الله تعالى:
" وأما الحي: فإن كان ممن يخاف عليه الفتنة بذكر ما فيه من المحاسن؛ فهو ممنوع.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح فقال: ( أَهْلَكْتُمْ -أَوْ: قَطَعْتُمْ- ظَهْرَ الرَّجُلِ ).
وإن لم تُخَفْ الفتنةُ عليه: فلا بأس به؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: ( إيه يا ابن الخطاب! فوالذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك ) " انتهى. "المنتقى" (1 / 310).
فتبين بهذا: أن المدح إذا كان باعتدال، وبحق، ويُعلم من حال الممدوح الحزم في أمر دينه وعدم الاغترار: فإنه يرخص فيه؛ خاصةً عند الحاجة، كما في مدح النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ولعدد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( ويحك! قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ )، وفي حديث أبي موسى: ( قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ) كل ذلك بمعنى أهلكتموه ...
ويعني بذلك كله: أن الممدوح إذا أكثر عليه من ذلك، يُخاف عليه منه العجب بنفسه، والكبر على غيره، فيهلك دينه بهاتين الكبيرتين، فإذا المدح مظنة الهلاك الديني، فيحرم.
لكن هذه المظنة لا تتحقق إلا عند الإكثار منه، والإطراء به.
وأما مع الندرة والقلة؛ فلا يكون مظنة، فيجوز ذلك إذا كان حقًّا في نفسه، ولم يُقصد به الإطراء، وأُمن على الممدوح الاغترار به. وعلى هذا يُحمل ما وقع للصحابة رضي الله عنهم من مدح بعضهم لبعض، مشافهة ومكاتبة.
وقد مُدِح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مشافهةً، نَظمًا ونثرًا، ومَدَح هو أيضا جماعة من أعيان أصحابه مشافهةً، لكن ذلك كله إنما جاز: لمَّا صحت المقاصدُ، وأُمنت الآفات المذكورة " انتهى. "المفهم" (6 / 627).
وعلى ضوء هذين الضابطين يفهم حديث: ( إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ).
فالحديث عبر بصيغة المبالغة: (الْمَدَّاحِينَ)، وهم من يبالغون في المدح ويكثرون منه، وليس مجرد مدح باعتدال وحق.
قال ابن رسلان رحمه الله تعالى:
" (الْمَدَّاحِينَ) من أبنية المبالغة، فإنها لا تحصل إلا من كثُر منه المدح حتى صار عادة له، بخلاف المادح، فإنه يطلق على مَن مدح ولو مرة " انتهى. "شرح سنن أبي داود" (18 / 476).
وقال الإمام الخطابي، رحمه الله:
"المدَّاحون: هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة، وجعلوه بضاعة، يستأكلون به الممدوح، ويفتنونه.
فأما من مدح الرجلَ على الفعلِ الحسنِ، والأمر المحمود يكون منه، ترغيباً له في أمثاله، وتحريضاً للناس على الاقتداء به في أشباهه: فليس بمدَّاح، وإن كان قد صار مادحًا بما تكلم به من جميل القول فيه». انتهى، من "معالم السنن" (4/ 111).
ومن يبالغ في المدح لا يكاد يسلم من الكذب، والممدوح، خاصة الراضي بمثل هذا المدح: لا يكاد يسلم من الافتتان والغرور.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام: ( احْثُو التُّرَابَ فِي وجه الْمَدَّاحِينَ) المراد به: المداحون الناسَ في وجوههم بالباطل، وبما ليس فيهم ...
ولم يُرَدْ به من مدح رجلا بما فيه، فقد مُدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحثُ في وجه المداحين، ولا أمر بذلك ...
وقد مَدح رسول الله عليه السلام الأنصار فقال: ( إنَّكُمْ لتقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَع، و تَكْثُرُونَ عِنْدَ الفَزع ) ومثل هذا قوله عليه السلام: (لا تُطْرُونِي كَما أَطْرَتِ النَّصارَى عيسى ابْنَ مَرْيَمَ، قالوا: عبد الله؛ فإنما أنا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) أى: لا تصفونى بما ليس لي من الصفات، تلتمسون بذلك مدحى، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ... " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (9 / 254).
الخلاصة:
ما ورد من ذم المدح، فهو متعلق بالمدح المبالغ فيه، والذي يخشى فيه على الممدوح الفتنة والغرور.
فأما إذا كان المدح بحق واعتدال، والممدوح يتوسم فيه الحزم والتقوى، ففيه رخصة، والأحسن تركه، إلا إذا كانت هناك مصلحة شرعية مرجوة من هذا المدح.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" ( باب النهي عن المدح إذا كان فيه افراط وخيف منه فتنة على الممدوح )، ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح، وقد جاءت أحاديث كثيرة في "الصحيحين" بالمدح في الوجه.
قال العلماء: وطريق الجمع بينها: أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة، من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح.
وأما من لا يُخاف عليه ذلك، لكمال تقواه ورسوخ عقله، ومعرفته: فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة.
بل إن كان يحصل بذلك مصلحة، كنشاطه للخير، والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به= كان مستحبا، والله أعلم " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (18 / 126).
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟