أولا:
بيع السِّلعة دون معرفة وزنها، أو عددها، أو مساحتها، يسمى عند الفقهاء "بيع الجزاف".
وهو بيع جائز بشرط تحقق مشاهدة ورؤية المشتري للسلعة، وذلك أن الرؤية تغني عن معرفة الوزن والكيل ونحوهما.
وهو من البيوع المنتشرة قديمًا، وكان الصحابة في العهد النبوي يتبايعون به، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبتاعون جزافا" يعني الطعام، رواه البخاري (2137)، ومسلم (1725).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"إجارة الأرض المعيَّنة جائزة وإن لم يعلم ذُرْعانُها، كما يجوز بيعها، وبيع سائر المعيَّنات، وإن لم يعلم مقدارها، فإن بيع العين جزافًا جائز بالسنة والإجماع"، انتهى من "مجموع الفتاوى" (30/307).
ولهذا البيع عند العلماء صورتان:
الأولى: أن يكون البائع جاهلا بمقدار السلعة، فلا يعلم كم وزنها أو كيلها أو عددها.
وفي هذه الصورة لا خلاف بين العلماء في جواز البيع.
قال ابن عبد البر: "وبيع الطعام جزافا، في الصبرة ونحوها، أمر مجتمع على إجازته، وفي السنة الثابتة في هذا الحديث دليل على إجازة ذلك، ولا أعلم فيه اختلافا". انهى من "التمهيد" (8/434).
وقال ابن قدامة: "ولا نعلم فيه خلافًا ...؛ لأنه معلوم بالرؤية، فصحَّ بيعه". انتهى من "المغني" (6/201).
الثانية: أن يكون البائع عالمًا بقدر السلعة ويكتمه عن الآخر.
وفي هذه الصورة خلاف بين العلماء.
فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز له البيع جزافا إذا كان عالما بقدر المبيع، ويلزمه أن يبين ذلك للمشتري وإلا كان غاشًّا له، وهو مذهب الإمام مالك وأحمد.
قال ابن عبد البر: "إلا أن مالكا لم يجز لمن علم مقدار صبرته وكدسه كيلا أن يبيعه جزافا، حتى يعرف المشتري بمبلغه، فإن فعل فهو غاش، ومبتاع ذلك منه بالخيار إذا علم، كالعيب سواء". انتهى من "التمهيد" (8/434).
وقد سأل إسحاق بن منصور الإمام أحمد عن بيع الطعام جزافاً؟
فقال: "إذا علم البائع مَكِيله، فينبغي له أن يسمِّى الكيل، فإذا سمَّى كيلا كاله".
قال: وإذا لم يعلم كيله يبيعه جزافا؟
قال: "نعم، إذا لم يعلم البائع والمشترى".
قال إسحاق بن راهويه: "كما قال، إلا أن يكون البائع كاله قبل ذلك، ثم غاب عنه، فله أن يبيعه جزافا حينئذ". انتهى من "مسائل الكوسج" (6/2619).
والأقرب والله أعلم هو الجواز مطلقًا، كما هو مذهب الحنفية والشافعية؛ "لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره، فمع العلم من أحدهما أولى". انتهى من "المغني" (6/204)
ولأن الأصل في البيع الإباحة لقوله تعالى: وأحل الله البيع "فكل بيع حلال على ظاهر هذه الآية، إلا أن تمنع منه سنة، ولم ترد سنة في المنع من هذا، بل قد وردت السنة في إجازة بيع الطعام جزافًا، ولم يختلف العلماء في ذلك، ولم يفرق أكثرهم بين العالم بذلك والجاهل.. فلا وجه للفرق بين من علم كيل طعامه، وبين من جهله في ذلك"، انتهى من "التمهيد" (8/434).
قال الحافظ ابن حجر عن أثر ابن عمر: "وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا، سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم". انتهى من "فتح الباري" (4/351).
وقال العمراني: "إذا باعها جزافا.. فقد قلنا: يصح البيع، وإن لم يذكر كيلها، سواء علم البائع قدر كيلها أو لم يعلم". انتهى من البيان في مذهب الإمام الشافعي" (5/93).
وفي "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (1/166): "كما يصح بيع المكيلات والموزونات والعدديات والمذروعات، كيلا ووزنا وعددا وذرعا: يصح بيعها جزافا أيضا".
ثانيا:
إذا كان البيع بين مالين ربويين من جنس واحد، كالتمر بالتمر، أو الذهب بالذهب، فلا يجوز البيع جزافا؛ لأن من شروط صحة البيع في الربويات من جنس واحد: التماثل في القدر، وهذا لا يتحقق في البيع جزافا.
وينظر جواب السؤال: (279825).
والله أعلم.