أولا:
روى الإمام مسلم (746) عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها، أنّها قَالَتْ: " فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ".
والله تعالى قد شهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بعظمة خلقه، حيث قال سبحانه وتعالى:
( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم/4.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" قال: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) أي: عاليا به، مستعليا بخلقك الذي منّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه، فقالت: ( كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ )، وذلك نحو قوله تعالى له: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )، ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) الآية، ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )، وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات الحاثات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلّها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا له إلا أتمّ عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بِشْرَه، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 879).
وكون خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن؛ أي متأدبا به متبعا لهداه.
قال الإمام الطحاوي، رحمه الله: وكان قول عائشة: " كان خلقه القرآن "، أي: اتباع ما يأمره به القرآن، وترك ما ينهاه عنه. انتهى، من شرح مشكل الآثار (11/ 267).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقا هكذا قال مجاهد وغيره وهو تأويل القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (10/ 658).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وسئلت عائشةُ عن خلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( كان خُلُقُه القُرآن )، تعني: أنه تأدّب بآدابه، وتخلّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه، وجاء في رواية عنها، قالت: ( كان خُلُقُه القُرآن يرضى لِرضاه ويسخط لسخطه ) " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (1/370).
ثانيا:
لا يشكل على ما تقرر من كريم خلق النبي صلى الله عليه، وتمثله للقرآن في أخلاقه وشمائله، وأدبه؛ لا يشكل على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا لأمور:
الأمر الأول:
أن هذا العتاب كان نادرا، ففي طوال فترة نبوته صلى الله عليه وسلم لم يعاتب إلا في مرات قليلة جدا.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وقد عاتب اللهُ تعالى نَبِيَّه في خمسة مواضع من كتابه في: الأنفال، وبراءة، والأحزاب، وسورة التحريم، وسورة عبس " انتهى. "بدائع الفوائد" (4/1312).
فالعتاب كان نادرا، والنادر لا حكم له. ويتبين ذلك بـ:
الأمر الثاني، وهو:
أن الخلق لا يطلق على ما يصدر من الإنسان على جهة الندرة أو حتى القِلة، فالبخيل الذي يصدر منه في المرة النادرة والمرة: فعل الكرام، لا يسمى كريما. وهكذا عكسه.
قال ابن سِيده: "الخَلِيقة - أَي الطَّبِيعة، غَيره، هِيَ الخَلِيقة، وجَمعها خَلَائِقُ. والخُلْق والخُلُق، والجَمع أَخْلاق وتَخَلَّق بِالْأَمر - اظْهر أنَّه من خُلُقه، والمُخَالقة كالتَخلُّق. والخُلُق: العادةُ". انتهى، من "المخصص" (1/ 231).
وقال الزبيدي: "والخُلُقُ: العادَةُ، وَمِنْه قَوْلُه تَعَالَى: إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ" انتهى، من "تاج العروس من جواهر القاموس" (25/ 263)
وقال التهانوي: «الخلق:
[ في الفرنسية] Caractere ،nature ،bravoure ،religion
[في الانكليزية] Character ،nature ،braveness ،religion
بضمّتين، وسكون الثاني أيضا، في اللغة: العادة، والطبيعة، والدين، والمروءة. والجمع: الأخلاق.
وفي عرف العلماء: ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال بسهولة من غير تقدّم فكر وروية وتكلّف.
فغير الراسخ من صفات النفس، كغضب الحليم: لا يكون خلقا. وكذا الراسخ الذي يكون مبدأ للأفعال النفسية بعسر وتأمّل، كالبخيل إذا حاول الكرم، وكالكريم إذا قصد بإعطائه الشهرة". انتهى، من "كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" (1/ 762).
وعلى ذلك، في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القرآن.
قال ابن رجب، رحمه الله: "حُسنَ الخُلق قد يُراد به التخلُّقُ بأخلاق الشريعة، والتأدُّبُ بآداب الله التي أدَّبَ بها عبادَه في كتابه، كما قال تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، وقالت عائشة: كان خُلُقُه صلى الله عليه وسلم القرآن، يعني أنَّه يتأدَّب بآدابه، فيفعل أوامرَه ويجتنب نواهيه، فصار العملُ بالقرآن له خُلقًا كالجبلَّة والطَّبيعة لا يُفارِقُه، وهذا أحسنُ الأخلاق وأشرفُها وأجملُها" انتهى، من "جامع العلوم والحكم" (2/ 99)
وعلى ذلك؛ فكل ما استشكل من عتاب الله جل جلاله لنبيه الكريم، على فعل فعله، أو اجتهاد، جاء الوحي بعد ذلك بإثبات خلافه؛ كل ذلك لا يسمى خلقا، فإنه كان في النادر جدا من الأحوال، ثم لم يبق النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا اعتاده، ولا تخلق به.
والنبي صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وإن أعرض عن الأعمى، وعبس، وتولى، صلى الله عليه وسلم؛ فإنما كان ذلك مرة، وأما "خلقه" و"شأنه" و"دينه": فقد كان أعظم الناس بشرا، وأكثرهم تبسما في وجه صاحبه.
وهذا يتبين أيضا بـ:
الأمر الثالث، وهو:
أن الأمور التي عوتب عليها صلى الله عليه وسلم، لم يقع فيها صلى الله عليه وسلم مخالفا لصريح ما ورد في القرآن الكريم، وإنما اجتهد فيها فخالف ما هو الأولى، ولهذا نص أهل العلم أن ما عوتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على تحريمه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" تقديم العتاب على الفعل من الله تعالى لا يدلّ على تحريمه، وقد عاتب اللهُ تعالى نَبِيَّه في خمسة مواضع من كتابه في: الأنفال وبراءة والأحزاب وسوَرة التحريم وسورة عبس، خلافا لأبي محمد ابن عبد السلام حيث جعل العتب من أدلة النهي " انتهى. "بدائع الفوائد" (4 / 1312).
فمثلا العتاب الوارد في "سورة عبس" لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم من انصرافه عن هذا الصحابي إلا ما رجاه من إسلام الأشراف الذين كان يخاطبهم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة، وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سببا لإسلام من تحتهم وكان طمع النبي صلى الله عليه وسلم فيهم شديدا، فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكروا أنه كان يقول: علمني مما علمك الله ويستقرىء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه، وعبس في وجهه رجاء وطمعا في إسلام هؤلاء العظماء، وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء يزدرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين. الأمر الأول: الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء. والأمر الثاني: ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقر عندهم، ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس احتقارا لابن أم مكتوم؛ لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوة الحق بين عباد الله، وأن الناس عنده سواء بل من كان أشد إقبالا على الإسلام فهو أحب إليه " انتهى. "تفسير العثيمين: جزء عم" (ص59).
والله أعلم.