الآية الكريمة من أبلغ ما يكون في التعبير؛ وبيان ذلك أن المثنى في اللغة نوعان:
1. مثنى في اللفظ والمعنى:
وهو ما كان المقصود به شخصان اثنان حقيقة، مثل قوله تعالى: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة/ 23]، فجاء التعبير بالمثنى، لأن المراد رجلان اثنان بالفعل.
2. مثنى في اللفظ فقط، وجمع في المعنى:
وهو المقصود في قوله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.
فكلمة خصمان تُطلق على فريقين متقابلين، أي جماعتين متخاصمتين، لكنها جاءت بصيغة المثنى؛ لأن كل فريق يُعدّ خصمًا للآخر. ولهذا استُعمل اسم الإشارة المثنى هذان؛ لأن المقصود فريقان اثنان (أهل الإيمان وأهل الكفر).
ثم جاء الفعل اختصموا بضمير الجمع، مراعاة لحقيقة المعنى، إذ إن كل خصم يضم جماعة من الناس، لا شخصًا واحدًا.
قال السمين الحلبي، رحمه الله: " قوله: هذان خَصْمَانِ : الخَصْم في الأصل: مصدرٌ؛ ولذلك يُوحَّدُ ويذكَّرُ غالباً، وعليه قولُه تعالى: نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ [ص: 21] . ويجوز أنْ يُثَنَى ويجمعَ ويؤنَّثَ، وعليه هذه الآيةُ. ولمَّا كان كلُّ خَصْمٍ فريقاً يَجْمَعُ طائفةً قال: اختصَمُوا بصيغةِ الجمع كقولِه: وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا [الحجرات: 9] فالجمعُ مراعاةً للمعنى". انتهى، من "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" (8/ 247).
وقال الألوسي رحمه الله في روح المعاني (9/ 127):
"خَصْمانِ، وهو تثنية. خصم وذكروا أنه في الأصل مصدر، يستوي فيه الواحد المذكر وغيره، قال أبو البقاء: وأكثر الاستعمال توحيده، فمن ثنَّاه، وجمعه: حمله على الصفات والأسماء" انتهى.
وقال ابن عاشور رحمه الله "فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) [الحج/ 18]، من انقسام المذكورِين إلى فريقين؛ أهل توحيد، وأهل شرك، كما يقتضيه قوله: وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب [الحج/ 18] من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره" انتهى من "التحرير والتنوير" (17/228).
والله أعلم.