هل مغفرة الله للذنوب جميعا تتعارض مع حديث ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ)؟

السؤال: 434140

في هذه الآية يبين أن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)، وفي هذا الحديث فيه استثناء: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين..)، ممكن توضحوا لي المعنى، والرابط بينهم.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

حذر الله عز وجل عباده من إظهار الفاحشة والمعاصي في الناس، وإشاعتها، وتوعد من يحب ذلك، وجعلها علامة على أهل الفسوق والنفاق. فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النور/19.

قال ابن كثير، رحمه الله: " وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء، وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى (7) : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أي: يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، لهم عذاب أليم في الدنيا أي: بالحد، وفي الآخرة بالعذاب، والله يعلم وأنتم لا تعلمون أي: فردوا الأمور إليه ترشدوا". انتهى، من "تفسير ابن كثير" (6/29).

وقال الشيخ السعدي، رحمه الله: " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟ " وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة.

وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه". انتهى، من "تفسير السعدي" (563).

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ألم بشيء من تلك المعاصي: أن يستتر بستر الله عليه، ولا يفضح نفسه، ولا يتعالن بها أمام الناس؛ فإن من شأن خفاء المعصية: أن يقل الراغب فيها، والطالب لها، والمشتغل بشأنها.

روى مالك في "الموطأ" (12): عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ. فَقَالَ: دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ ‌مِنْ ‌هَذِهِ ‌الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا. فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ.

ثانيا:

كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباد أن يستتروا بستر الله عليهم، فقد حذر صلى الله عليه وسلم العاصي من أن يتحدث بمعصيته أمام الناس؛ فإن من شأن ذلك أن تتحرك دواعيهم إليها، ويقوى في نفوسهم طلبها، والرغبة فيها.

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) رواه البخاري (6069) ومسلم (2990).

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

" المجاهرون: الّذين يجاهرون بالفواحش، ويتحدّثون بما قد فعلوه منها سرا، والنّاس في عافية من جهة الهمّ مستورون، وهؤلاء مفتضحون" انتهى. "شرح المشكل" (3 / 397).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "نهى الله عن إشاعة الفاحشة بقوله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة وكذلك أمر بستر الفواحش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الكتاب . وقال: ‌كل ‌أمتي ‌معافى إلا المجاهرين؛ والمجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به فما دام الذنب مستورا فمصيبته على صاحبه خاصة فإذا أظهر ولم ينكر كان ضرره عاما فكيف إذا كان في ظهوره تحريك غيره إليه". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (28/ 215).

ثالثاً:

هذه المعافاة التي يحرم منها المجاهر، تتضمن أمرين، وكلاهما جائز، صحيح، ولا إشكال فيه.

الأمر الأول: أن من شأن هذا المجاهر، المتباهي، المتحدث: أن ينسلخ من قلبه استقباح معصيته، والندم عليها؛ بل يستمرئها، ويتمادى فيها، ويصر عليها؛ فيحرم من توبة الله عز وجل عليه، حتى يلقى ربه بإثم هذه المعصية، ووبالها.

قال ابن القيم، وهو يتحدث عن عقوبات المعاصي، وآثارها على صاحبها:

"ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحُها، فتصير له عادةً، فلا يَستقبح من نفسه رؤيةَ الناس له، ولا كلامَهم فيه.

وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتّك وتمام اللذة، حتّى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملتُ كذا وكذا!

وهذا الضرب من الناس لا يُعافَون، وتسدّ عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافىً إلا المجاهرين. وإنّ من الإجهار أن يستر الله على العبد، ثم يُصبِح يفضَح نفسه، ويقول: يا فلان عملتُ يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيهتك نفسَه، وقد بات يستره ربه" انتهى، من "الداء والدواء" (141-142).

المعنى الثاني: أن معصية هذا المعاصي: تصير كبيرة، بإصراره عليها، وتباهيه بها، فلا تقوى أعماله على أن تكفرها عنه. وهذا معنى صحيح ظاهر، لا إشكال فيه.

وهذا إذا قدر أنها في نفسها كانت صغيرة؛ فكيف لو كانت كبيرة، وتباهى بها صاحبها؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: ( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) رواه مسلم (233).

ومن تمام ذلك المعنى: أنه إذا لم يعاف من هذه القاذورات التي يتباهى بها، ويتحدث بها، ويتبجح بها أمام الناس: أن يلقى الله بها، ثقيلاً ظهره، حتى يقضي الله فيه بأمره.

فالحديث ينفي المعافاة عن المجاهرين بالمعاصي.

وهذه المعافاة تشمل المعافاة في الدنيا، لأن الساتر لنفسه لا يلحقه ذل المعصية أمام الخلق، فهو مستور العرض، بخلاف المجاهر فقد هتك عرضه أمام الخلق.

ثالثاً:

لا إشكال بين هذا الحديث، وبين قول الله جل جلاله: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء (48).

فليس في الآية ما يدل أو يقتضي أن تحصل المغفرة لأهل الكبائر، جميعهم، في الدنيا. بل هم تحت مشيئة أرحم الراحمين؛ فمنهم من يعجل له مغفرته، فيلقى الله خفيف الظهر، ومنهم من يؤخرها، حتى يسترها عليه، يوم القيامة ويغفرها له، ومنهم: من لا يغفر له، وهذا مقتضى المشيئة التي قيد بها مغفرته سبحانه، لمن لم يشرك به شيئا.

غير أن أصحاب الكبائر من الموحدين، مآل أمرهم إلى الجنة، ولا بد، وإن عذبوا قبل ذلك ما عذبوا.

وهذا كله أمر مقرر معلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة، وهم مجمعون عليه.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى:

" وليحذر المجاهرون بالمعاصى من وعيد الله النافذ على من شاء من عباده " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (9 / 264).

رابعا:

للشيخ العالم المجاهد، عبد الحميد بن باديس، رحمه الله تعالى، كلام نفيس حول هذا الحديث، وفوائده العلمية والتربوية.

قال رحمه الله، بعد أن ذكر نص الحديث:

"‌‌الكلمات:

المعافى: من العافية وهي السلامة، فالمعافى هو السالم.

ويحتمل أن يكون المراد هنا سلامة العرض من القدح، أو سلامة البدن من الحد، أو سلامة العاقبة من المؤاخذة بالذنب.

والمجاهر: هو المعلن بفسقه.

‌‌المعنى:

قد يرتكب المذنب المعصية مع شعوره بقبح ما أتى، وخجله به من ربه، وانكسار قلبه من أجل معصيته، فهو لذلك يتستر بذنبه، فلا يطلع عليه غيره، لا بقول ولا بفعل، فهذا قد سلم منه الناس، فلم يؤذهم بشره، ولم يدعهم إلى الاقتداء به، وسلم منه الشرع، فلم يكسر من هيبته، ولم ينقص عند الناس من حرمته، فسلم له هو عرضه من القدح، وبدنه من الحد، وسلم له أصل إيمانه، وهو حياؤه من الله وخوفه منه، واحترامه لدينه وبعضه لما يأتي من معصيته، فيوشك بهذه الحياة التي في قلبه: أن يقلع عن ذنبه، ويتوب فيسلم عن المؤاخذة بسبب التوبة.

وقد يترجح ما في قلبه من خوف وخجل، واحترام وبغض للمعصية، وتألم بها- على نفس المعصية- فيسلم من المؤاخذة بها عند الموازنة يوم القيامة.

فصدق فيه هذا الوعد: بأنه معافى من ذنبه وسالم من المؤاخذة به.

أما الذي يجاهر بمعصيته ويعلن بها: فهذا قد تعدَّى على مجتمع الناس، بما أظهر من فساد، وما أوجد من قدوة سيئة، وما عمل لمجاهرته على شيوع الفاحشة فيهم.

وقد تعدى على الشرع بما انتهك من حرمته، وجرأ من السفهاء عليه.

وهو بمجاهرته: قد دل على استخفافه بحق الله وحق عباده، وعلى عناده للدين، وخلو قلبه من الخوف والحياة؛ وأي إيمان يبقى بعدهما؟!

ولما كانت المجاهرة بالمعصية تطلق في الغالب على من يُعلن أمره للجماعات؛ بين النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أن مجاهرة الفرد، كمجاهرة الجماعة؛ من باب التنبيه على الجزئي الخفي من جزئيات المنهي عنه، لأنه هو الذي شأنه أن لا يتنبه له، فيتساهل فيه، ومن تساهل في الجزئي الخفي، أدَّاه ذلك إلى التساهل في غيره.

وهذا الجزئي الخفي: هو أن يعمل عملا يستره الله فيه، ثم يحدث به رفيقه، فيكشف ستر الله عنه.

 استنباط:

قد تبين ما في المجاهرة من المفاسد، والظلم، وقد دل الحديث على أن أهلها غيرُ معافّيْن، فهم هالكون، فهي حرام، ومعصية زائدة في أصل المعصية.

فالمجاهر بمعصيته ارتكب معصيتين: المعصية، والمجاهرة بها.

وقد تجر عليه المجاهرة آثاما كثيرة، بما يتسبب عن معصيته من شيوع الفاحشة، وسوء القدوة، ويستمر ذلك يكتب عليه من آثاره، ما بقي متسبب عن آثاره إلى يوم القيامة.

فيا لفداحة الحمل يوم الفزع الأكبر.

وكما يحرم تحدث الشخص بمعصية نفسه، لما فيه من المجاهرة؛ كذلك يحرم عليه أن يتحدث بمعصية غيره، ولو كان هو الذي حدثه؛ لما في ذلك من إذاعة الفاحشة، ومن الغيبة.

‌‌تنبيه وتحذير:

المجاهر بفسقه، الذي لا يستتر من أحد= يجوزُ ذكرُه بفسقه الذي جاهر به، إذا كان في ذكره به مصلحة، أو دفع مفسدة.

ويجب أن يحذر من ذكره لغير ذلك؛ فإنه من الغيبة، وإذاعة الفاحشة.

‌‌اعتبار:

هذا في الأفراد، ومثلها الأمم، فالأمة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضرب على يد سفهائها، وأهل الفساد منها، وتهجرهم وتنبذهم من مجتمعها: تسلم من الشرور والبلايا، وتقل، أو تنعدم، منها المفاسد والمنكرات.

والأمة التي تسكت عن سفهائها، وأهل الشر من كبرائها، وتدعهم يتجاهرون فيها بالفواحش والقبائح: هي أمة هالكة، متحملة جريرة المجاهرة، بالمعاصي، بالهلاك في الدين والعذاب في الآخرة.

 ‌‌تربية:

روى الحاكم في مستدركه، عن ابن عمر- رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله). فليعمل المسلم على اجتناب المعاصي كلها، حتى إذا ألم بشيء منها، فليجتهد في إخفائه وستره، وليضرع إلى الله تعالى في سجوده: أن يتوب عليه من ذنبه، وليتوسل إليه- تعالى- بإيمانه به، وحيائه وخوفه منه، واحترامه لشرعه وعباده، فهو- جل جلاله يحب التوابين ويحب المتطهرين". انتهى، من "آثار ابن باديس". (2/234-236).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android