الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

تفسير قول الله تعالى: (وقرن في بيوتكن...)

349011

تاريخ النشر : 27-05-2022

المشاهدات : 36703

السؤال

هل الأمر في الآية الكريمة : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) للوجوب ؟ أم يوجد لها صارف يصرفها للندب والاستحباب ؟

الحمد لله.

أولًا :

تفسير قول الله تعالى: (وقرن في بيوتكن)

قال الله تعالى لنساء نبيه عليه السلام: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا  الأحزاب/ 32-33 .

قال الشيخ السعدي، رحمه الله: " يقول تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ : خطاب لهن كلهن ، لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله، فإنكن بذلك، تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها.

فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينتظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح فإن القلب الصحيح ليس فيه شهوة لما حرم الله، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض.

بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه.

فهذا دليل على أن الوسائل، لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول، واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِينَ لهم القول.

ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما تُوُهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ؛ أي: غير غليظ، ولا جاف، كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع.

وتأمل كيف قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ولم يقل: فلا تَلِنَّ بالقول ؛ وذلك لأن المنهي عنه، القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع: هو الذي يُطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا، ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم؛ فإن هذا لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح الله رسوله باللين، فقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وقال لموسى وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.

ودل قوله: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا= أنه ينبغي للعبد، إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام؛  فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض، وَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال الله العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي: اقررن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ.

وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه.

ولما أمرهن بالتقوى عمومًا، وبجزئيات من التقوى، نص عليها لحاجة النساء إليها كذلك؛ أمرهن بالطاعة، خصوصًا الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما، ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة، الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة، الإحسان إلى العبيد.

ثم أمرهن بالطاعة عمومًا، فقال: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يدخل في طاعة الله ورسوله، كل أمر أمرَا به، أمر إيجاب أو استحباب.

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما نهاكُنَّ عنه، لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أي: الأذى، والشر، والخبث، يا أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا حتى تكونوا طاهرين مطهرين.

أي: فاحمدوا ربكم، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد الله أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم.

ولما أمرهن بالعمل، الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبين لهن طريقه، فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ . والمراد بآيات الله: القرآن. والحكمة: أسراره، وسنة رسوله. وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله.

إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تَبين وتسر. فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة الله على تلك الأعمال." انتهى، من "تفسير السعدي" (663).

ثانيا:

اختلاف القراءات في (وقرن في بيوتكن)

اختلف القراء في قراءة هذه الكلمة ( وقرن )،  فقرأ المدنيان، وعاصم بفتح القاف، وقرأ الباقون بكسرها .

انظر : "النشر" ، لابن الجزري:(2/ 348).

وأما معناها:

1- فعلى قراءة الفتح ( وقَرن ) ، فإن أصلها ( واقررن في بيوتكن ، وكأن من قرأ ذلك كذلك حذف الراء الأولى من اقررن ، وهي مفتوحة ، ثم نقلها إلى القاف ).

2- وعلى قراءة الكسر ( وقِرن ) بمعنى: كن أهل وقار وسكينة في بيوتكن، وهذه القراءة وهي الكسر في القاف على وجه أن تكون من الوقار، لأنه يقال: وقَر فلان في منزله فهو يقِرُ وقورا، فتكسر القاف في (تفعل)؛ فإذا أمر منه قيل: قر، كما يقال من وزن: يزن زن، ومن وعد: يعد عد.

انظر : "تفسير الطبري" (19/ 96).

قال " الماوردي " في " النكت والعيون " (4/ 399):

" قوله عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرئت على وجهين:

أحدهما: بفتح القاف، قرأه نافع وعاصم، وتأويلها اقررن في بيوتكن، من القرار في مكان.

الثاني: بكسر القاف: قرأها الباقون، وتأويلها كن أهل وقار وسكينة "، انتهى.

وينظر: " البسيط " ، للواحدي (18/ 234).

وقال " القرطبي " في " الجامع لأحكام القرآن " (14/ 179): " عنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى.

هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع.

فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج "نتهى .

ثانيًا :

الأمر بالقرار في البيوت للنساء هل هو على الوجوب؟  

أَمْرُ الله سبحانه لأمهات المؤمنين بالقرار في بيوتهن على قولين للعلماء :

الأول : أنه للوجوب .

قال "ابن عاشور" : " هذا أمر خُصصن به ، وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن؛ توقيرًا لهن ، وتقوية في حرمتهن ، فقرارهن في بيوتهن عبادة ، وأن نزول الوحي فيها، وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة ..

وهذا الحكم : وجوبٌ على أمهات المؤمنين ، وهو كمال لسائر النساء"، انتهى من"التحرير والتنوير" (22/ 10).

الثاني : أنه ليس على الوجوب .

فقد نقل "ابن الملقن" في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (11/ 40) : " وقال المهلب: وقوله: "لكُنَّ أفضلُ الجهاد؛ حج مبرور" : يفسر قوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ [الأحزاب: 33] ، أنه ليس على الفرض لملازمة البيوت ، كما زعم من أراد تنقيص أم المؤمنين في خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين ، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها ؛ لأنه قال : "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" ؛ فدل أن لهن جهادًا غير الحج ، والحج أفضل منه .

فإن قيل : النساء لا يحل لهن الجهاد ؟

قيل: قالت حفصة: قدمت علينا امرأة غزت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست غزوات، وقالت : كنا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى . وهو في الصحيح ، وكان - عليه السلام - إذا أراد الغزو أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها غزا بها ..." انتهى ، وانظر : "فتح الباري" (4/ 75).

وعلى أي رأي من هذه الآراء ، فإن " الأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفرة ، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها ، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ، وأعمرها من التنعيم .

وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن - كما كن يحججن معه - خلافة عمر  رضي الله عنه وغيره ، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف "، انتهى من "منهاج السنة" لابن تيمية(4/ 317).

وقال "ابن كثير" في "تفسيره" (6/ 409): " وقوله : وقرن في بيوتكن أي: الزمن بيوتكن ، فلا تخرجن لغير حاجة .

ومن الحوائج الشرعية : الصلاة في المسجد بشرطه"، انتهى .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب