الفرق بين علم الله الأزلي وعلم الظهور، وبأيهما تتعلق الإحاطة؟

السؤال: 601926

ورد في كثر أن علم الله تعالى ينقسم قسمان علم ظهور، وجزاء العلم المتجدد، وعلم الأ زلي، وذكر في غير موضع من الآيات أن الله يحيط بكل شيء، وفي تفسيرها ورد أن معناها أن علم الله تعالى في كل مكان، فأي علم الذي في كل مكان علم الازل أم علم الظهور والجزاء؟ مع دليل أن السلف اثبتوا مضمون قاعدة أن الله له علمان أزل وظهور؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

من صفاته تعالى: علمه الشامل الذي لا يعزب عنه شيء، ومن أسمائه تعالى العليم، وذلك ثابت في نصوص كثيرة معلومة من الكتاب والسنة.

والعلم صفة أزلية، فلم يزل الله تعالى عالما.

وعلمه متجدد كذلك؛ لأن العلم بالشيء قبل حدوثه، ليس هو العلم بالشيء بعد حدوثه، فهذا علم بعد علم.

والله جل وعلا علم كل شيء في الأزل، قبل أن يكون، وقدره، وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فإذا وقع ما علمه وقدره، فإن الله يعلمه بعد أن يقع علما آخر زائدًا على علمه السابق به.

وهذا معنى الآيات التي يرد فيها: (إلا لنعلم) (وليَعلم)، وهذا ما يسمى علم الظهور، أو العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب.

قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) البقرة/143 . فهذا علم الظهور الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وإلا فالله عالم بذلك قبل أن يخلقهم.

وقال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) الكهف/12.

وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران/142.

والله يعلم هؤلاء قبل أن يخلقهم، وإنما المراد بالعلم هنا علم الظهور.

قال البغوي رحمه الله في تفسيره (1/ 160): "فإن قيل ما معنى قوله: إلا لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها؟

قيل: أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب، إنما يتعلق بما يوجد.

معناه: ليعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب.

وقيل: إلا لنعلم أي: لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلب على عقبيه، فيرتد ... وقال أهل المعاني: معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كأنه سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم، وضلالة قوم. وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي، كما قال الله تعالى "فلم تقتلون أنبياء الله" (91-البقرة)؛ أي فلم قتلتموهم" انتهى.

والقول الأول: ظاهر في بيان نوعي العلم، فهناك علم قديم، وعلم يتعلق به الثواب والعقاب.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وقوله: لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ونحو ذلك، فهذا هو العلم الذي يتعلق بالمعلوم بعد وجوده، وهو العلم الذي يترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب، والأول هو العلم بأنه سيكون، ومجرد ذلك العلم لا يترتب عليه مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، فإن هذا إنما يكون بعد وجود الأفعال.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال في هذا: لنرى. وكذلك المفسرون قالوا: لنعلمه موجودا، بعد أن كنا نعلم أنه سيكون.

وهذا المتجدد فيه قولان مشهوران للنظار: منهم من يقول: المتجدد هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم فقط، وتلك نسبة عدمية.

ومنهم من يقول: بل المتجدد علمٌ بكون الشيء ووجوده، وهذا العلم غير العلم بأنه سيكون، وهذا كما في قوله: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون فقد أخبر بتجدد الرؤية.

فقيل: نسبة عدمية، وقيل: المتجدد أمر ثبوتي.

والكلام على القولين ومن قال هذا وهذا وحجج الفريقين قد بسطت في موضع آخر.

وعامة السلف وأئمة السنة والحديث: على أن المتجدد أمر ثبوتي، كما دل عليه النص، وهذا مما هجر أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي على نفيه، فإنه كان يقول بقول ابن كلاب، فرّ من تجدد أمر ثبوتي، وقال بلوازم ذلك، فخالف من نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ما أوجب ظهور بدعة، اقتضت أن يهجره الإمام أحمد ويحذر منه. وقد قيل: إن الحارث رجع عن ذلك. والمتأخرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة على قولين: منهم من سلك طريقة ابن كلاب وأتباعه، ومنهم من سلك طريقة أئمة السنة والحديث؛ وهذا مبسوط في موضعه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/ 496).

وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله :" قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم) الآية .

ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل: أنه تعالى يستفيد بالاختبار، علما لم يكن يعلمه - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون، قبل أن يكون .

وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه، بقوله جل وعلا: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) [3 / 154] ؛ فقوله: (والله عليم بذات الصدور) ، بعد قوله: (ليبتلي) : دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ؛ لأن العليم بذات الصدور، غني عن الاختبار .

وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه .
ومعنى (إلا لنعلم) أي: علما يترتب عليه الثواب والعقاب؛ فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك.

وفائدة الاختبار: ظهور الأمر للناس.

أما عالم السر والنجوى: فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى." انتهى من "أضواء البيان " (1/46).

ثانيا:

الله عز وجل محيط بخلقه، كما قال: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج:20]، وقال: (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [فصلت:54]، وقال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) [النساء:126] وقال سبحانه: (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [البقرة : 19]، وقال تعالى: وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق : 12].

والمقصود بالإحاطة: إحاطة العلم، والقدرة، والقرب، لا إحاطة الذات، فليست ذاته محيطة بخلقه كإحاطة الفلك بما فيه، تعالى الله أن يكون في ذاته شيء مخلوق.

قال قِوَام السُّنَّة الأصبهاني رحمه الله: "المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً" انتهى من "الحجة في بيان المحجة" (1/ 163).

وقال الآجري رحمه الله: "باب ذكر السنن التي دلت العقلاء: على أن الله عز وجل على عرشه فوق سبع سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء" انتهى من "الشريعة" (3/ 1081).

وهذا العلم المحيط بكل شيء، زمانا ومكانا؛ فهو العلم الأزلي، فهو سبحانه أحاط بكل شيء علما، بما كان، وما لم يكن، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وأما علم الظهور فهذا متعلقه: ما يقع من الحوادث، بعد وقوعها.

وأما في المكان: فعلمه القديم يعم كل مكان، وزمان.

وكذا علمه المتجدد، الذي يكون عليه حسابهم: يعم كل مكان، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ كما قال الله تعالى: أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7].

قال الإمام الطبري، رحمه الله: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فترى أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض من شيء، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره. يقول جل ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم. ثم وصف جل ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم، فيتحدثونه سرا بينهم، فقال: ما يكون من نجوى ثلاثة من خلقه، إلا هو رابعهم يسمع سرهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم. يقول: ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك، ولا أدنى من ذلك. يقول: ولا أقل من ثلاثة.

ولا أكثر. يقول: ولا أكثر من خمسة، إلا هو معهم إذا تناجوا أين ما كانوا.

يقول: في أي موضع ومكان كانوا.

وعني بقوله: هو رابعهم. بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه وهو على عرشه.

كما حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنى نصر بن ميمون المضروب، قال: ثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك في قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلى قوله: هو معهم. قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا ‌ثم ‌ينبئهم ‌بما ‌عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.

وقوله: ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة. يقول تعالى ذكره: ثم يخبر هؤلاء المتناجين وغيرهم بما عملوا من عمل مما يحبه أو يسخطه يوم القيامة؛ إن الله بكل شيء عليم. يقول: إن الله بنجواهم وأسرارهم وسرائر أعمالهم، وغير ذلك من أمورهم وأمور عباده – عليم". انتهى، من "تفسير الطبري" (22/468).

قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، رحمه الله: "يعني أنه حاضر كل نجوى، ومع كل أحد من فوق العرش بعلمه، لأن علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، لا يحجبه شيء عن علمه وبصره، ولا يتوارون منه بشيء، وهو بكماله فوق العرش، بائن من خلقه: يعلم السر وأخفى [طه: 7] . أقرب إلى أحدهم من فوق العرش من حبل الوريد، قادر على أن يكون له ذلك، لأنه لا يبعد عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض، فهو كذلك رابعهم ، وخامسهم، وسادسهم، لا أنه معهم بنفسه في الأرض كما ادعيتم، وكذلك فسرته العلماء" "الرد على الجهمية للدارمي" (ص42).

وَقَالَ الإمام مَالك رحمه الله: " الله فِي السَّمَاء، ‌وَعلمه ‌فِي ‌كل ‌مَكَان؛ لَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْء".

رواه عنه الإمام أحمد، كما في "العلل ومعرفة الرجال" (1/ 530).

وهذه مقالة مشهورة، أطبق عليها أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في الكلام على آية سورة المجالة السابقة:

" علماء الصحابة والتابعين - الذين حمل عنهم التأويل - قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش ‌وعلمه ‌في ‌كل ‌مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (3/ 263).

والحاصل:

أن علمه جل جلاله محيط بكل شيء، وبكل مكان؛ كما قال الله جل جلاله: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ 5 هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ [آل عمران: 5-6].

والأدلة من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم والسنة في تقرير ذلك: أكثر من أن يسعها هذا الجواب.

والله أعلم.
 

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android