32

هل اختلط هشام بن عروة، كما قال ابن القطان؟

السؤال: 599378

لقد أجمع أهل العلم على أن الراوي إذا قيل فيه جرح يجب علي الشخص أن يقبله، وبخاصة إذا كان الجرح مفسرا، ولو كان عدد المعدلين أكثر؛ لأنه قد يطلع على ما لا يطلعونه، ولقد قال: ابن القطان الفاسي أن هشام بن عروة اختلط، فما رأيكم في هذا بخاصة أن ابن القطان من أئمة الجرح والتعديل والمنتقدين؟

ملخص الجواب

هشام بن عروة من أئمة الرواة الثقات الأثبات، ولم يثبت في حقه جرح معتبر بالتغير في الكبر، فضلا عن الاختلاط. وغمز ابن القطان له بذلك: من تشدده في أمر الرجال، ولم يعتمده الأئمة الحفاظ من بعده، بل انتقدوه عليه.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

جرح الراوي جرحا مفسرا له حالتان:

الحالة الأولى: أن يرد في راو خالٍ من التعديل:

فهذا يقبل فيه الجرح من أئمة الجرح والتعديل مطلقا؛ سواء كان مجملا أو مفسرا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " ( فإن خلا ) المجروح ( عن تعديل؛ قبل) الجرح فيه، ( مجملًا )، غيرَ مبيّن السّبب؛ إذا صدر من عارف، ( على المختار )؛ لأنّه إذا لم يكن فيه تعديل؛ فهو في حيّز المجهول، وإعمال قول المجرّح، أولى من إهماله " انتهى. "نزهة النظر" (ص243).

الحالة الثانية:

أن يرد الجرح المفسر في راو عدله غيرُ الجارح من علماء الرجال.

فتقديم هذا الجرح المفسر ليس إجماعا كما ذكرت في السؤال، نعم هناك من حكاه إجماعا، لكنه لا يصح؛ لأن الخلاف في هذا مشهور، والجمهور على تقديم الجرح المفسر.

قال الزركشي رحمه الله تعالى: "إذا تعارض ‌الجرح المفسّر، والتّعديل، في راو واحد؛ فأقوال: أحدها: يقدّم ‌الجرح مطلقا، وإن كان الّذي عدّل أكثر، وهذا ما جزم به الماورديّ، والرّويانيّ، وابن القشيريّ. وقال: نقل القاضي فيه الإجماع، ونقله الخطيب، والباجيّ عن جمهور العلماء. وقال الآمديّ، والرّازيّ، وابن الصّلاح: إنّه الصّحيح؛ لأنّ مع الجارح زيادةَ علم، لم يطّلع عليها المعدّل " انتهى. "البحر المحيط في أصول الفقه" (4 / 297).

لكن قول الجمهور هذا مقيد بأن يكون هذا الجرح المفسر قادحا حقيقة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " فذلك الطعنُ، مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبينَ السبب، ‌مفسرا ‌بقادح ‌يقدح في عدالة هذا الراوي، وفي ضبطه مطلقا، أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح، ومنها ما لا يقدح " انتهى. "هدي الساري" (ص384).

ووجه التقييد: أن الجارح ليس بمعصوم، فقد يذكر جرحا مفسرا، لكنه ليس بقادح معتبر في الراوي؛ إما لأنه ليس بجرح حقيقة؛ أو لأنه لم يثبت على الراوي، وخاصة إذا كان الراوي قد استفاض واشتهر ضبطه وعدالته بين الأئمة، فيجب التثبت في أمره.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: " والصّحيح في هذا الباب أنّ من ‌صحّت ‌عدالته، وثبتت في العلم إمامته، وبانت ثقته، وبالعلم عنايته: لم يُلتفت فيه إلى قول أحد، إلّا أن يأتي في جرحته ببيّنة عادلة يصحّ بها جرحه، على طريق الشّهادات والعمل فيها، من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله " انتهى. "جامع بيان العلم وفضله" (2 / 1093).

وعلّق السخاوي على هذا الكلام، بقوله رحمه الله تعالى: " وليس المراد إقامة بينة على جرحه، بل المعنى أنه يستند في جرحه لما يستند إليه الشاهد في شهادته، وهو المشاهَدة ونحوها.

وأوضح منه في المراد: ما سبقه به محمد بن نصر المروزي ; فإنه قال: وكل رجل ثبتت عدالته، لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحه " انتهى. "فتح المغيث" (2/32).

ثانيًا:

الكلام على تغيُّر هشام بن عروة، أو اختلاطه: وقع لابن القطان رحمه الله، في درج تنبيهه على بعض المآخذ على كتاب "الأحكام الكبرى"، لعبد الحق الأشبيلي، رحمه الله. قال: «ومما ينبغي أن يُحذر في كتابه: سكوتُه عن مُصحَّحات الترمذي، وما أخرجه البخاري أو مسلم؛ فإنه قد يكون الحديث منها من رواية من هو عنده ضعيف، أو موضع للنظر، إذا كان ما يرويه من عند غير هؤلاء. وكأنه إذا كان ما رواه عند هؤلاء، دخل الحِمَى، فسلِم من اعتبار أحواله، فإذا كان ما يرويه من عند غير هؤلاء وضع فيه النظر.

هذا النوع كثير، ننبه على مثل منه، وابحث عنه بنفسك فيما مر في هذا الكتاب، وفيما لم نعرض له من أحاديث كتابه، إما إغفالاً وإما لغرض آخر».

ثم قال: "وكذلك أحاديث كثيرٍ من المختلطين، وقد تقدم التنبيه على طائفة منهم.

وإن سهيل ابن أبي صالح، وهشام بن عروة لمنهم، لأنهما تغيرا، وهو لا يتجنب شيئاً مما يجد لهما، ولا ينبه على كونه من روايتهما، إذا كان من عند البخاري أو مسلم، أو [ممن صحح] له الترمذي، وهو مختلف فيه". انتهى، من "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (5/ 503-504).

وابن القطان الفاسي رحمه الله تعالى، وإن كان من المعتنين بالشأن، المدققين؛ إلا أّنه متأخر في الوجود عن هشام بن عروة بعدة قرون فهو قد توفي سنة 628 هـ، وهشام بن عروة توفي سنة 145 هـ.

فمع هذا البعد الزمني لا يقبل من ابن القطان طعن في هشام بالاختلاط إلا بخبر صحيح الإسناد، ولا يعلم وجودُ خبر ينص على اختلاطه، ولم يسبقه إلى هذا الجرح أحد من علماء هذا الشأن المتقدمين.

ولأجل ذلك انتقد أئمة الشأن، ممن جاء بعد ابن القطان، كلامه في شأن هشام بن عروة، ونحوه، وذكروا ذلك من تعنته في الرجال، وغلطه على أئمة الشأن، من عند نفسه.

قال الذهبي رحمه الله تعالى: "طالعت كتابه المسمى بـ"الوهم والإيهام" الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال رجال فما أنصف؛ بحيث إنه أخذ ‌يلين ‌هشام ‌بن ‌عروة ونحوه". انتهى، من "تذكرة الحفاظ»" (4/ 134).

وقال أيضا:

" ‌هشام ‌بن ‌عروة، أحد الاعلام، حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبدا، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا، وتغيرا.

نعم الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان! ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط وذر خلط الائمة الاثبات بالضعفاء والمخلطين، فهشام شيخ الإسلام " انتهى. "ميزان الاعتدال" (5 / 58).

بل قال أيضا في تعليقاته الخاصة على كتاب ابن القطان: "قال ابن القطان: وكذلك عدة من المختلطين، وإن سهيلا ‌وهشام ‌بن ‌عروة لمنهم لأنهما تغيرا، فسكت عنهما إذا كان من "الصحيحين" أو من مصحح الترمذي.

قلت: فاتتك نكتة، فإنك صحفي، ما جالستَ أصحاب الحديث؛ أعاقل يعد ‌هشام ‌بن ‌عروة من المختلطين؟ أعظم الله أجرنا فيك". انتهى، من "الرد على ابن القطان في كتابه بيان الوهم والإيهام" (ص60).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وقال أبو الحسن بن القطان: تغير قبل موته. ولم نر له في ذلك سلفا " انتهى. "تهذيب التهذيب" (4 / 276).

والخلاصة:

أن هشام بن عروة من أئمة الرواة الثقات الأثبات، ولم يثبت في حقه جرح معتبر بالتغير في الكبر، فضلا عن الاختلاط. وغمز ابن القطان له بذلك: من تشدده في أمر الرجال، ولم يعتمده الأئمة الحفاظ من بعده، بل انتقدوه عليه.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android