لم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا والقرآن مكتوبٌ في السطور، ومحفوظٌ في صدور جمعٍ غفيرٍ من الصحابة.
وأما ما رواه البخاري (3810) ومسلم (2465) عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: "جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت" قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي.
فجوابه من وجوه:
1-أن قصارى ما يفيده قول أنس بن مالك أن هؤلاء الأربعة جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا نفي ذلك عن غيرهم، واللفظ المحفوظ للرواية هو (جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ، كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ...).
وإثبات وصفٍ لشخصٍ لا يعني نفيه عمَّن عداه.
وكأن أنسًا رضي الله عنه خصَّ هؤلاء بالذكر لكونهم من الأنصار، ومن أقاربه الخزرج تحديدًا.
قال الحافظ ابن حجر: " المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين ومن جاء بعدهم". انتهى من "فتح الباري" (9/51).
ومما يؤكد أن هذا الحصر غير مراد: ما ثبت في صحيح البخاري (3808) ومسلم (2464) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ).
وابن مسعود وسالم لم يذكرا في حديث أنس.
2-أنَّ إحصاء عدد حفظة القرآن من الصحابة من الأمور التي يصعب حصرها.
قال المازري: "وكيف تتصوّر الإحاطة بهذا وأصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم مفترقون في البلاد، وهذا لا يتصوّر حتى يلقى النّاقل كلّ رجل منهم فيخبره عَن نفسه أنَّه لمَ يكمِل القرآن، وهذا بعيد تصوّره في العادة، كيف وقد نقل الرّواة إكمال بعض النّساء لِقِرَاءته، وقد اشتهر حديث عائشة رضي الله عنها وقولها: كنت جاريةً حديثة السّنّ لَا أقرأ كثيرًا من القراّن، ولم يذكر في هؤلاء الأربعة أبو بكر الصديق، ولا عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، وكيف يظَنّ بهذين اللَّذين هما أفضل الصّحابة أنهّما لم يحفظاه، وحفظه من سواهما؟! وهذا كلّه يؤكد ما قلناه". انتهى من "المعلم بفوائد مسلم" (3/264).
3- قُتل يوم اليمامة جمعٌ كبيرٌ من حفاظ القرآن، حتى قال عمر -كما في صحيح البخاري (4679)-: "إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ"، وكانت اليمامة قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر، فهؤلاء الذين قتلوا من جامعيه يومئذ، فكيف الظن بمن لم يقتل ممن حضرها ومن لم يحضرها وبقي بالمدينة أو بمكة أو غيرهما.
وكذا ما في الصحيحين من قتل سبعين من الأنصار يوم بئر معونة كانوا يسمَّون القراء.
4-أن حفظ القرآن ليس من الأمور الظاهرة، فكثير من الناس قد يحفظ القرآن ولا يعلم به أحد إلا إذا أخبر عن نفسه.
قال الحسن البصري: "إنْ كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره". انتهى من "الزهد" لابن المبارك (ص 45).
5-أن الإخبار بجمع القرآن كله، لا يمكن تحققه إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؛ لأن القرآن لا يزال يتنزل عليه يومه وليلته.
ولذا لم يستجز كثير من الصحابة أن يُخبِرَ عن نفسه أو غيره أنه قد حفظَ جميع كتابِ الله.
6-كيف يُظنُّ بالصحابة وهم أحرص الناس على الخير أنهم لم يحفظوا القرآن كله أو أكثره.
وارتباط الصحابة ومعرفتهم بالقرآن وثيقة، فقد كان يحتلُّ المكانَ الأولَ في قلوبهم، وحياتُهم كلُّها في ليلهم ونهارهم ارتبطت بآيات القرآن رِباطاً وثيقاً، فكانوا يتدارسونه فيما بينهم، ويُعلِّم بعضُهم بعضاً امتثالًا منهم لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (خيرُكم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه).
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (7/ 492): " قد عُلم ضرورةً من تدين الصحابة رضى الله عنهم ومبادرتهم إلى الطاعات والقُرب التي هي أدنى منزلةً من حفظ القرآن ما يعلم منه: أنه محال - مع كثرتهم - ألا يحفظه منهم إلا أربعة، كيف ونحن نرى أهل عصرنا يحفظه منهم ألوف لا تحصى، مع نقص رغبتهم في الخير عن رغبة الصحابة رضى الله عنهم، فكيف بالصحابة على جلالة أقدارهم؟!"
7-عدم حفظ الصحابي للقرآن كلِّه لا يعني أنه لا يحفظ أكثره أو كثيرا منه، ولذا نجد للسورة الواحدة حفاظًا بالمئات، وإن لم يكونوا يحفظون القرآن كلَّه.
فحتى لو لم يحفظه كل واحد منهم، حرفًا حرفًا، فهو محفوظ بالنظر إلى المجموع.
وليس من شرط كونه متواترا أن يحفظ الكلُّ الكلَّ؛ بل الشيء الكثير، إذا روى كلّ جزء منه خلق كثير؛ عُلِم ضرورة، وحَصَل متواترا .
ولو أن قصيدة (قفا نبكِ) روى كلّ بيت منها مئة رجلٍ مثلا، لم يحفظ كلُّ مئةٍ سوى البيت الذي روته؛ لكانت متواترة. ينظر: المعلم بفوائد مسلم (3/263)
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (16/20): " لو ثبت أنه لم يجمعه إلا الأربعة: لم يقدح في تواتره، فإن أجزاءه: حفظ كلَّ جزءٍ منها خلائقُ لا يحصون، يحصل التواتر ببعضهم، وليس من شرط التواتر أن ينقل جميعُهم جميعَه، بل إذا نقلَ كلَّ جزءٍ عددُ التواتر، صارت الجملة متواترة بلا شك".
وفي "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (9/52):" لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن كُلّ وَاحِد مِنْ الْجَمّ الْغَفِير لَمْ يَحْفَظهُ كُلّه: أَنْ لَا يَكُون حَفِظَ مَجْمُوعَه الْجَمُّ الْغَفِير، وَلَيْسَ مِنْ شَرْط التَّوَاتُر أَنْ يَحْفَظ كُلّ فَرْد جَمِيعه، بَلْ إِذَا حَفِظَ الْكُلُّ الْكُلَّ، وَلَوْ عَلَى التَّوْزِيع= كَفَى".
8-"أن القرآن كان عندهم من البلاغة بحيث هو، وكان الكافرون في الجاهلية يعجبون من بلاغته ويحارون فيها، حتى ينسبوها تارة إلى السحر، وتارة إلى أساطير الأولين، ونحن نعلم من عادة العرب شدة حرصهم على الكلام البليغ، وحفظهم له، ولم يكن لها شغل ولا صناعة سوى ذلك، فلو لم يكن للصحابة باعث على حفظ القرآن سوى هذا، لكان من أدل الدلائل على أن الخبر ليس على ظاهره". انتهى من "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/492).
والحاصل:
أن الواقع يدل على حفظ الصحابة للقرآن في سطورهم وصدورهم، ولذا قال زَيدِ بنِ ثابت رضي الله عنه: "فتَتبَّعتُ القرآنَ أجمَعُه مِنَ الرِّقاعِ والأكتافِ والعُسُبِ وصُدورِ الرِّجال".
ينظر للفائدة جواب السؤال: (336850)، (211865)، (223036).
والله أعلم.