أولا:
هذا الحديث رواه البخاري (5259)، ومسلم (1492): عن سَهْل بْن سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ: " أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، فَقالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقالَ عَاصِمٌ: لَمْ تَأتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. قالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا. فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ، فَقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا.
قالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَا قالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ".
ثانيا:
عبارة: ( فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم )، واضح من السياق أنها كانت أمام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أراد أن يؤكد بها صدق قوله: ( كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا ).
قال الباجي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ) يريد أنه أتى بهذا اللفظ، وهو قوله: هي طالق ثلاثا، ويحتمل أن يريد به أن ذلك مقتضى قوله: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ لأن المفهوم من قوله هذا أن من دليل صدقه أن لا يمكنه المقام معها، ولا الإمساك لها على حكم الزوجية، وهذا يقتضي الطلاق الثلاث؛ لأنه لو طلقها طلاقا رجعيا، لكان في معنى الممسك لها، ولا يستدل بذلك على صدقه " انتهى. "المنتقى" (4 / 73).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد أثابه الله تعالى:
" الرجل أراد أن يبادر هو بالتخلص والبراءة منها لإثبات صدقة، ولعله لم يكن يعلم أن التلاعن يحصل به الفراق دون الحاجة إلى طلاق " انتهى. "شرح سنن أبي داود" (258 / 11 بترقيم الشاملة).
وهذا الذي فهمه أهل العلم، أي أنه نطق بهذا الطلاق أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذا استدل بعض أهل العلم على جواز إيقاع الطلاق ثلاثا، في وقت واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه ولم ينكر عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا يسكت على باطل.
ولعلّ الإمام البخاري أشار إليهم وإلى هذا الاستدلال بإخراج الخبر تحت باب: " مَنْ أَجَازَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ ".
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وقد احتجّ بهذا الحديث من قال: إنّ الطلاق ثلاثا، بكلمة واحدة: مباح؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على العجلانيّ أن طلّق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة بعد الملاعنة " انتهى. "التمهيد" (4 / 178).
ومن خالفهم، لم يحتج بأنه لم يقل هذا القول أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لهم أدلة أخرى .
ثالثا:
طلاق الثلاث، هو طلاق بدعي، وخلاف ما أرشد إليه الشرع ، فلا يشرع للمسلم أن يقدم عليه ويخالف ما أرشد إليه الشرع من صفة الطلاق المشروع.
والقرآن الكريم قد بيّن كيفية الطلاق، وهذا في قوله تعالى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) البقرة/229.
وبيّن أيضا أن لكل مرة عدة، فلا يشرع أن يجمع الثلاث دفعة واحدة.
وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" واختلفوا فيمن أراد أن يطلقها في هذه الحال ثلاثا:
فقال أكثر أهل العلم: الطلاق الذي يكون مطلِّقُه مصيبًا للسنة: أن يطلقها إذا كانت مدخولا بها، طلاقا يملك فيه الرجعة.
واحتجوا - أو من احتج منهم في ذلك - لظاهر قوله: ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ )، إلى قوله: ( لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) قال: فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ قال: ومن طلق ثلاثا فما جعل الله له مخرجا، ولا من أمره يسرا.
قال: وهو طلاق السنة الذي أجمع أهل العلم عليه أنه السنة.
فأما ما زاد على ذلك، مما لا مراجعة لمطلقه عليها: فليس للسنة؛ إذْ كان مَن طلق ثلاثا لا يجوز أن يُحدث له بعد ذلك أمرا، فمن فعل ذلك، فقد خالف ما أمره الله به، وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله عز وجل أن يطلق للعدة، فإذا طلق ثلاثا، فأي عدة تحصى، وأي أمر يحدث؟! وذلك خلاف أمر الله تعالى.
قال: وفي قوله: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ )، دليل على أنها طلقة واحدة في كل مرة " انتهى. "الأوسط" (9 / 139).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مَرّة بعد مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلا. قال تعالى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ )، والمرتان في لغة العرب، بل وسائر لغات الناس: إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى آخره، وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قاطبة شاهد بذلك، كقوله تعالى: ( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ )، وقوله: ( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ )، وقوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )، ثم فسرها بالأوقات الثلاثة. وشواهد هذا أكثر من أن تحصى.
ثم قال سبحانه: ( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )، فهذه هي المرة الثالثة.
فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه مرة بعد مرة بعد مرة، فهذا شرعه من حيث العدد.
وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدّة، وقد فسّره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطلقها طاهرا من غير جماع، فلم يشرع جمع ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع الطلاق في حيض، ولا في طهر وطئ فيه " انتهى. "إغاثة اللهفان" (1 / 501).
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يعاقب من يوقع هذا النوع من الطلاق.
روى سعيد بن منصور (1073): عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ" " فِي مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا قَالَ: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْجَعَ ظَهْرَهُ ".
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9 / 362).
وروى الإمام مسلم (1471): حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى -. قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ ، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ: " أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ ".
وَزَادَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَتِهِ: "وَكَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ لِأَحَدِهِمْ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللهَ فِيمَا أَمَرَكَ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ".
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" و(قوله: وَعَصَيْتَ ربك) يعني: بالطلاق ثلاثا في كلمة. وظاهره: أنه محرّم، وهو قول ابن عباس المشهور عنه، وعمر بن الخطاب، وعمران بن حصين. وإليه ذهب مالك ... " انتهى. "المفهم" (4 / 231).
والاحتجاج بحديث عويمر العجلاني، على مشروعية طلاق الثلاث في مجلس واحد: محل بحث ونظر، وخلاف أيضًا؛ لأن الفرقة في اللعان تحصل باللعان نفسه ولا يفتقر إلى لفظ الطلاق.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وكلّ الفقهاء من أهل المدينة، وسائر الحجازيّين، وأهل الشام، وأهل الكوفة، يقولون: إنّ اللّعان مُسْتَغْنٍ عن الطلاق، وإنّ حكمه وسنّته: الفرقة بين المتلاعنين.
وإنما اختلافهم الذي قدّمنا في أنّ الحاكم يلزمه أن يفرّق بينهما، إلّا عثمان البتّيّ في أهل البصرة فإنّه لم ير التلاعن ينقض شيئا من عصمة الزّوجين، حتى يطلّق. وهو قول لم يتقَدّمه إليه أحد من الصحابة. على أنّ البتّيّ قد استحبّ للملاعن أن يطلّق بعد اللّعان، ولم يستحبّه قبل ذلك، فدلّ على أنّ اللّعان عنده قد أحدث حكما.
قال أبو عمر: معنى قول ابن شهاب في آخر حديث مالك: فكانت تلك سنّة المتلاعنَين؛ يعني: الفرقة بينهما إذا تلاعنا، لا أنّه أراد الطلاق " انتهى. "التمهيد" (4 / 179 — 180).
فطلاق عويمر العجلاني لم يكن له أثر؛ لأن الفرقة قد حصلت بنفس اللعان، قبل أن ينطق بهذا الطلاق.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" فأما ما اعتل به من رأى: أن من يطلق الثلاث في مرة واحدة، مطلِّقٌ للسنة، محتجا بحديث العجلاني، فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبية، علم الزوج الذي طلق ذلك أو لم يعلم، لأن قائله يوقع الفرقة بالتعانِ الرجل، وقبل أن تلتعن المرأة. فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعان الزوج وحده " انتهى. "الأوسط" (9 / 140).
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ):
هذا حجة للشافعي على جواز إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة.
ووجه احتجاجه: أنه صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ذلك.
وقد انفصل أصحابنا عن ذلك بأن قالوا: إنَّه إنما أقرّه؛ لأن الطلاق لم يقع؛ إذ لم يصادِف محلا؛ فإنها قد بانت منه بفراغهما من اللّعان؛ بدليل قوله في الحديث الآخر: ( لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا ) " انتهى. "المفهم" (4 / 292).
رابعا:
وأما وقوع هذا الطلاق الثلاث، وهل يكون ثلاثا، أم طلقة واحدة؟
فهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، سبق ذكره.
والذي عليه الفتوى في الموقع: أنها تقع واحدة.
وينظر: جواب السؤال رقم: (96194)، ورقم (197018)، ورقم (152067).
عبارة: ( فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا )، سياق الخبر يدل على أنه نطق بهذا الطلاق أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي فهمه أهل العلم.
والراجح أن طلاق الثلاث طلاق بدعة غير مشروع، وليس من طلاق السنة.
والله أعلم.