لماذا نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم؟

السؤال: 587715

لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الجُنُب عن الاغتسال في الماء الراكد، مع أن المَني طاهر؟
إذا اغتسل فيه، هل يُعتبر الماء كله نجسًا إذا كان أقلَّ من القُلَّتين؟
لقد قرأت فتوى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، حيث ردّ فيها على من يأخذ بظاهر ألفاظ الأحاديث التي تنصَّ على أن الماء لا يَنجس إلا إذا بلغُ قلتين، وذكر أنَّ هذه الأحاديث لا يمكن الاعتماد عليها كدليلٍ قاطعٍ على أن الماء الأقل من ذلك يُمكن أن يُنجس، حتى لو سقطَت فيه نجاسة صغيرة لا تُغَيِّر أيّا من خصائصه، لكن لم يُذكَر سبب عدم الأخذ بظاهر هذه الأحاديث. فما الأسباب؟
ولماذا ذُكر "الماء القلتين" تحديدًا؟
بحَسب قول الشيخ ابن عثيمين وموقعكم، فإن الماء لا يُصبح نجسًا إلا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، ويُستدلُّ على ذلك أيضًا من حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسَكب دلو من الماء على بوله، وذلك لغَمر النجاسة، هذا الرأي تؤيده أيضًا أحاديث ضعيفة في سُنَن ابن ماجه والبيهقي، تنصُّ صراحة على
أنَّ الماء طَهور لا يَنجس إلا إذا تغيَّرت أحد صفاته، أنا في حَيرة من حديث القُلَّتين.

ملخص الجواب

الماء الذي ينغمس فيه الجنب لا ينجس بمجرد كون المنغمس جنبا؛ لكن ينهى عن هذا التصرف لما فيه من إفساد للماء على الناس حيث يستقذرونه.

موضوعات ذات صلة

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

روى الإمام مسلم (283): عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:  لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا .

هذا الحديث لم يتعرض لحكم الماء، ولم يحكم بنجاسته، وإنما نهى عن هذا التصرف من الاغتسال.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لحكم الماء إطلاقا، وإنما وجه الخطاب لمن اغتسل، أما الماء فلم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم " انتهى. "فتح ذي الجلال والإكرام" (1 / 72).

وحتى يفهم هذا الحديث على الوجه الصحيح، ينبغي التنبه إلى أن مجرد الجنابة لا يتنجس بها بدن الجنب.

روى البخاري (285)، ومسلم (371): عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: " لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ، فانْسَلَلْتُ، فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ، فاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئتُ وهو قاعِدٌ، فقالَ: أَيْنَ كُنْتَ يا أَبا هِرٍّ؟ فَقُلْتُ لَهُ، فقالَ: سُبْحانَ اللَّهِ يا أَبا هِرٍّ! إِنَّ ‌المُؤْمِنَ ‌لَا ‌يَنْجُسُ.

فإذا غمس الجنب شيئا من بدنه في الماء مهما كان الماء قليلا؛ فإنه لا ينجس.

روى أبو داود (68)، والنسائي (325)، والترمذي (65)، وابن ماجه (370): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا!

فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ.

قال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " انتهى.

وهذا حكم نقل الاتفاق عليه.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" أجمع عوام أهل العلم ‌على ‌أن ‌عرق ‌الجنب ‌طاهر، فممن ثبت عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرق الجنب طاهر: ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال عطاء، وابن جبير، والشعبي، والحسن ….

قال ابن المنذر: ودلت السنة الثابتة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم على طهارة الجنب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ( إِنَّ ‌المُؤْمِنَ ‌لَا ‌يَنْجُسُ ) " انتهى. "الأوسط" (2 / 302 — 304).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وأبدان ‌الجنب من الرجال والنساء طاهرة. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة؛ قال: فانخنست منه؛ فاغتسلت ثم أتيته فقال: أين كنت؟ فقلت: إني كنت جنبا؛ فكرهت أن أجالسك وأنا جنب فقال: ( سُبْحانَ اللَّهِ! إِنَّ ‌المُؤْمِنَ ‌لَا ‌يَنْجُسُ ). وهذا متفق عليه بين الأئمة: أن بدن الجنب طاهر، وعرقه طاهر، والثوب الذي يكون فيه عرقه طاهر؛ ولو سقط الجنب في دهن أو مائع: لم ينجسه، بلا نزاع بين الأئمة " انتهى. "مجموع الفتاوى" (21 / 58).

وبناء على هذا، فإن نهي الجنب عن الانغماس في الماء الراكد ليس لعلة التنجيس، لأن الجنابة لا ينجس بها بدن الجنب كما سبق، وإنما لعلة إفساد الماء على الناس؛ لأن الناس من طبعهم استقذار مثل هذا الماء.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:

" أكثر المياه الموجودة ليست كثيرةً مستبحرةً والناس يتناوبون المياه عند حاجتهم ويقربون منها للتنظيف بها، فلو أطلق لهم البولُ فيها لفسد أكثرها وقطع الانتفاع بها، لا سيما [فيما] (3) يقرُب من العُمران ويدخل الوساوس فيما يوجد منها. وقوله: ( لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ )، من هذا؛ يعني: ولم يغسل ما به من أذى.

وقول أبى هريرة: " يتناوله تناولاً ": يريد لا ينغمس فيه، ولكن يتناوله ويتطهر خارجا عنه.

وهذا فى غير المستبحر، وكذلك يكره له هذا في القليل وإن غسل ما به من أذى، لأنه لا يسْلم الجسم من درن ووسخ، فقد يغيّره ... " انتهى. "إكمال المعلم" (2 / 106).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البول في الماء الدائم، وعن الاغتسال فيه؟

قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك؛ بل قد يكون نهيه سدا للذريعة؛ لأن البول ذريعة إلى تنجيسه؛ فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا، تغير الماء بالبول فكان نهيُه سدًّا للذريعة.

أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه " انتهى. "مجموع الفتاوى" (21 / 33).

ثانيا:

وأما حديث القلتين في مسألة الماء الذي تقع فيه النجاسة.

عن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ المَاءِ يَكُونُ فِي الفَلَاةِ مِنَ الأَرْضِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ؟

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَرواه الترمذي (67)، وأبو داود (63)، والنسائي (52)، وابن ماجه (517).

وقد صححه كثير من أهل العلم.

قال الخطابي رحمه الله تعالى:

" وكفى شاهدا على صحته؛ أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه، وقالوا به، وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب " انتهى. "معالم السنن" (1 / 36).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وأما حديث القلتين: فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به " انتهى. "مجموع الفتاوى" (21/41).

فهذا الحديث ليس في ألفاظه ما يقطع بتنجس الماء دون القلتين إذا وقعت فيه النجاسة.

وإنما هو وارد، بحسب الأصل، في الماء الكثير في الفلوات ونحوها؛ وأن مثله يكون طاهرا، ولا يتأثر عادة بسقوط النجاسات المسؤول عنها فيه لكثرته؛ فلا يحتاج إلى تكلف البحث في طهارته؛ فإنه طاهر بحسب أصله، وما يتوهم من طروئه عليه في العادة: لا ينجسه.

وأما ما كان دون القلتين فلم ينص على حكمه، وإنما يفهم من الحديث أن الماء الذي هو أقل من القلتين يكون أضعف في تحمل النجاسة؛ لكن لا عموم لهذا المفهوم في جميع صور الماء الذي هو دون القلتين. فقد يكون الماء دون القلتين، لكنه كثير جدا بالنسبة للنجاسة لقلتها، فلا تؤثر فيه، كما يرى في الواقع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وأما تخصيص القلتين بالذكر: فإنهم سألوه عن الماء يكون ‌بأرض ‌الفلاة؛ ‌وما ‌ينوبه من السباع والدواب؛ وذلك الماء الكثير في العادة؛ فبين صلى الله عليه وسلم أن مثل ذلك لا يكون فيه خبث في العادة. بخلاف القليل فإنه قد يحمل الخبث، وقد لا يحمله؛ فإن الكثرة تُعِينُ على إحالة الخبث إلى طبعه.

والمفهوم لا يجب فيه العموم؛ فليس إذا كان القلتان لا تحمل الخبث، يلزم أن ما دونها يلزمه مطلقا " انتهى. "مجموع الفتاوى" (20 / 520).

ثم هذا المفهوم مع كونه لا عموم له، فقد عارضته دلالة أقوى، وهي منطوق حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: ( قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الحِيَضُ، وَلُحُومُ الكِلَابِ، وَالنَّتْنُ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ رواه أبو داود (66)، والترمذي (66 ) واللفظ له، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ".

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" [حديث القلتين] له منطوق ومفهوم.

فمنطوقه: إذا بلغ الماء قُلتين لم ينجس، وليس هذا على عمومه؛ لأنه يُستثنى منه إِذا تغير بالنَّجاسة؛ فإِنه يكون نجساً بالإِجماع.

ومفهومه: أن ما دون القُلّتين ينجس، فيقال: ينجس إِذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ لأن منطوق حديث: (إن الماء طهور لا يُنَجِّسُه شيء): مقدَّم على هذا المفهوم، إِذ إِنَّ المفهوم يصدق بصورة واحدة، وهي هنا صادقة فيما إِذا تغيَّر " انتهى. "الشرح الممتع" (1 / 42).

فجملة: ( إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ )، تصدق على الماء الكثير فوق القلتين، وعلى القليل دون القلتين، فكما اتفق على أن الكثير لا ينزع عنه حكم الطهورية هذا إلا بالتغير بالنجاسة، فكذلك القليل لا ينزع منه حكم الطهورية إلا بالتغير بالنجاسة.

قال الشوكاني رحمه الله تعالى:

" وقد دل هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وإذا كان دون القلتين فقد يحمل الخبث، ولكنه كما قيد حديث: ( المَاء طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ )، بتلك الزيادة التي وقع الاجماع عليها كذلك، يقيد حديث القلتين بها فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال، إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهده وضروة الحس، فلا منافاة بين حديث القلتين، وبين تلك الزيادة المجمع عليها، وأما ‌ما ‌كان ‌دون ‌القلتين ‌فهو ‌مظنة ‌لحمل ‌الخبث.

وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعا وبتا، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية؛ لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها، لا الخبث الذي لم يغيره " انتهى. "الدراري المضية شرح الدرر البهية" (ص 53).

وينظر جواب السؤال رقم: (224923).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android