هل يعاقب العاق بعد التوبة بعقوق أولاده؟

السؤال: 585439

أنا فتاة عندما كنت في سن المراهقة من سن 14- ١٧ أرهقت أمي وأبي كثيرا بالعقوق، كنت أفعل المعاصي وأخطأ كثيرا، وهم يحترقون من حزنهم علي، حتى إني كدت أن أزني لولا لطف الله بي، تعذبوا كثيرا معي، وأنا الآن أصبح عمري ٢٠ سنة، تبت منذ عامين بفضل الله ورحمته، وأحفظ ما تيسر من القران وانتقب، وأغض بصري، وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر بالموعظة الحسنة، وأتعلم التجويد، وأتعلم التعلم الأكاديمي بنية نفع الأمة، والحمد لله ما عرفني شاب مستقيم إلا طلب الزواج بي بعد أن أصلحني الله والحمد لله، والله لو علموا قبيح ما فعلته لأبى السلام علي من يلقاني، والآن أمي وأبي راضيان عني، أرفض الزواج بحجة أني أريد رجل يحفظ القرآن، لكن السبب الأساسي: أخاف أن يعاقبني الله بابنة تكون مثلي عندما كنت في المراهقة، فكيف لي أن أقبل أن يُـفجع قلب الرجل الذي سيكون زوجي بابنتنا بسبب سوء أخلاقي في السابق؟
أمي أحيانا تقول لي: الله يسامحك على كل شي فعلتيه، وأحيانا تقول: لا تحسبي أن الله سينسى ما فعلتي، وتأكدي أن الله سيعاقبك كما فعلتي بنا، كل دمعة نزلت مني بسببك سيقتص الله منك، وأنا قلبي يتقطع عندما أذكر ما فعلته، أكره نفسي، أحيانا يذكروني أهلي بما فعلته، لا أعلم كيف استقرت عظامي في محلها حينما أبكيت أمي ليال، وعندما أتخيل أن الله سيسألني عن سبب وقوعي في تلك المعاصي كيف سأجيبه ؟! فماذا يلزم علي؟
تبت إلى الله توبة نصوحا، فهل فعلاً سأعاقب بابنة تكون مثلي؟ وهل من المنطق أن أتزوج رجلاً كان باراً بأهله فيهب الله تعالى لنا ابنة فتكون عاقة بسببي؟

ملخص الجواب

التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وبعد التوبة الصادقة، لا يُخشى من عقوبة الذنب الماضي، لا في الدنيا ولا في الآخرة، والخشية أن يُعاقبك الله في ذريتك بسبب ما كان منك من الذنوب: من وسوسة الشيطان، ومن إساءة الظن بالله.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولاً:

اعلمي أن التوبة الصادقة تمحو ما قبلها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه ابن ماجه (4250)، وحسنه الألباني.

فليس بعد التوبة خوف من عقوبة الذنب الماضي، لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولا تعاقبين بابن أو ابنة عاقين بإذن الله تعالى إن وفقك الله وأحسنت التربية.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)  [طه/ 82]

قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (16/ 30):

 "في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" ... إذا قدر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر/53]. ونحن حقيقة قولنا: إن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة لا شرعا ولا قدراً" انتهى.

وقد ورد إلى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله، سؤال في فتاوى نور على الدرب (24/ 2، بترقيم الشاملة آليا):

"بارك الله فيكم المستمع من جده له سؤال يقول شخص توفي والداه وهما غاضبان عليه لأنه كان عاقاً لهما فقيل له: إن من عق والديه لا يجد رائحة الجنة وبذلك فقد فقد الأمل في دخول الجنة ولكي لا يصاب بيأس من رحمة الله قال له شخص آخر: إنك تستطيع برهما بعد الموت وذلك بالدعاء لهما والاستغفار لهما والصدقة عنهما وإن الله سبحانه وتعالى سيجمع بينكم يوم القيامة ويخبر والديك بأنك فعلت كذا وكذا من أجلهما فإن رضيا عنك فإن الله سيعفو عنك.

والسؤال هو هل هناك أصل لما قاله هذا الشخص بارك الله فيكم؟

فأجاب رحمه الله تعالى: "هذه القضية عبرة لمن اعتبر تفيد أن الإنسان العاقل ينتهز الفرصة في القيام بما أوجب الله عليه لئلا تفوته الفرصة فبإمكان هذا السائل أن يكون باراً بوالديه قبل موتهما ولكنه سوّف وأهمل وفرّط حتى فات الأوان وانتقلا من الدنيا إلى الآخرة ولكني أقول له

إن باب التوبة مفتوح؛ فإذا علم الله من عبده أنه قد ندم على ما صنع، واستغفر ربه فإن الله تعالى يغفر له، ولا يترتب على فعله السابق شيء مما يكون في تركه وتضييعه، فلا إثم عليه، ولا عقوبة.

وأرجو من الأخ السائل أن يستمع إلى هذه الآية الكريمة (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

فهذه الجرائم العظيمة: الشرك وهو أعظم الذنب، وقتل النفس وهو أعظم العدوان على البدن، والزنا وهو أعظم العدوان على العرض= إذا تاب الإنسان منها، وآمن وعمل عملاً صالحاً؛ فإن الله يبدل سيئاته حسنات، ويغفر له. ومن المعلوم أن الشرك لا يغفره الله (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)، ومع هذا إذا تاب الإنسان منه غفر الله له ورحمه.

وإذا اتصف بالأوصاف الثلاثة: تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً؛ بدل الله سيئاته حسنات.

فليبشر هذا السائل إذا كان قد تاب إلى الله وندم على ما جرى منه من تقصير في حق والديه، فليبشر بمغفرة الله له، وليسأل الله الثبات، وليكثر مما أرشده إليه أخوه، من الاستغفار لوالديه والدعاء لهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما. فإذا فعل ذلك عفا الله عنه وغفر له" انتهى.

ثانياً:

برّ الوالدين بعد التوبة من أعظم القربات، وهو مما يُرجى أن يمحو أثر العقوق السابق، فاجتهدي في خدمتهما والدعاء لهما، والإحسان إليهما بالقول والعمل، حاضراً وغائباً. ولا تقدّمي عليهما شيء من المباحات ولا من السنن، حتى لو تعارض برهما على حفظ القرآن فقدمي برهما .. بادري بخدمة الوالدين بما يحبون قبل أن يأمرانك.

ثالثاً:

لا يجوز تذكير التائب بذنبه، ولا يحل لأحدٍ أن يعيّر أخاه بما مضى، فقد عفا الله عنه، فليعفُ الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُؤذوا عباد الله، ولا تُعيّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم رواه أحمد (37/88)، والترمذي (2032)، وصححه الألباني.

رابعاً:

لا تذكري ماضيك لأحد؛ فإن الله قد سترك، ومن لزم ستر الله ستره الله في الدنيا والآخرة. كما أن ذكر الماضي قد يكون من إشاعة الفاحشة، وله أثر سلبي على من حولك؛ فقد يقول بعضهم: سأفعل مثلها ثم أتوب.

قال د. محمد المختار الشنقيطي في تفسير سورة النور (5/ 5 ) في تفسير آية "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ":

"كان مِن وصية السلف الصالح رحمهم الله: أنه لا ينبغي إشاعة الحوادث التي فيها فُحش وأمرٌ قبيح؛ لأن ذلك وَهَن في المجتمع وضعف فيه، ولذلك ورد عن سفيان الثوري رحمه الله قوله: إنه لا ينبغي للمؤمن إذا سمع الأمر القبيح أن يكون ناقلاً له، لأن ذلك ثلمةٌ في الإسلام، فإذا وقعت الفاحشة بين أهل الإيمان، واعتُني بنشرها ونقلها وإذاعتها، كان ذلك أدعى أن يجترئ أهل الفسق على الفسق حتى يقول القائل: إنني سأفعل كما فعل فلان، ولكن إذا كان الناس أبعد عن إشاعة هذه الأخبار الخبيثة وهذه الأمور القبيحة كان ذلك أدعى للحشمة والعفة" انتهى.  

خامساً:

خشيتك أن يُعاقبك الله في ذريتك بسبب ما كان منك من الذنوب: هذا من وسوسة الشيطان، ومن إساءة الظن بالله. بل إن التوبة والبر بعد العقوق سبب في صلاح الذرية بإذن الله تعالى.

فإن الله يجازي على السيئة سيئة مثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف لمن يشاء. فكيف بمن تاب وقد بدّل الله سيئاته حسنات.

سادساً:

الزواج باب عظيم للعفاف والاستقرار، فتوكلي على الله تعالى ، ولا تصدي الخُطّاب الصالحين الذين يتقدمون إليك، وإن كان لك رغبة في أن يكون الزوج حافظاً لكتاب الله، فهذا حقك ما دام عمرك مناسباً ، والخطّاب راغبون فيك..، وهو وصف جيد للزوج إذا كان هناك عدد من حفاظ القرآن الكريم، فالقرآن له أثر إيجابي على حامله،  لكن لا تجعلي ذلك حاجزاً يحرمك الخير، بل اجعلي الأصل في القبول: الاستقامة في الدين وحسن الخلق، فإن اجتمع مع ذلك حفظ القرآن فهو فضل على فضل، لا سيما إذا كنت في بلد يكثر فيهم أهل الخير والاستقامة وحفاظ القرآن الكريم.

سابعاً:

أحسني الظن بربك، وافرحي بفضله، فإن ما أنتِ فيه من التوفيق للحجاب والقرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها من دلائل قبول التوبة. يقول ابن القيم رحمه الله من علامات قبول التوبة: "أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها" انتهى من "مدارج السالكين"(1/ 203).

ثامناً:

احرصي على الدعاء بالثبات على الدين، واهتمي بالبيئة الصالحة، وتصدّقي فإن الصدقة تدفع السوء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة رواه البيهقي في شعب الإيمان (10/ 406)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795)، وفي الصحيحة (1908).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android