أولاً:
دعاء الإمام في الخطبة الثانية من صلب خطبة الجمعة، وهو سنة عند الجمهور، وركن من أركان الخطبة عند الشافعية، وقد سبق بيان ذلك مفصلا في فتوى سابقة فيرجع إليها: (323502).
ثانياً:
وقت الخطبة من حين يصعد الإمام المنبر ويشرع في الخطبة حتى ينزل، ووقت النزول ليس من الخطبة.
فعن هشام بن عروة بن الزبير أنه قال: "أدركت أبي، ومن مضى، ممن نرضاه ونأخذ عنهم: لا يرون بأساً بالكلام حين ينزل الإمام من المنبر، إلى أن يدخل في الصلاة" رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5419).
ومفهومه: أنه لا يجوز الكلام قبل النزول من المنبر.
وقد نص الفقهاء على أن وقت انتهاء الخطبة عند فراغه، ونزوله من المنبر، وكلام الخطيب قبل النزول من المنبر من الخطبة.
جاء في "حاشية ابن عابدين" (2/ 161):
قوله: فإذا أتم الإمام الخطبة أقيمت؛ بحيث يتصل أول الإقامة بآخر الخطبة انتهى.
وجاء في "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" (2/ 343):
فإذا فرغ من الخطبة أخذ في النُّزول، وأخذ المؤذن في الإقامة، ثم يتقدم فيصلي بهم انتهى.
ثالثاً:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ الإنصات في كل خطبة الجمعة، من حين يصعد إلى أن ينزل، ما دام يخطب.
واستثنى بعضهم حال جلوسه بين الخطبتين، أو إذا تحدث بحديث خارج الخطبة.
والدعاء عند المذاهب الثلاثة-الأحناف والمالكية والشافعية- من الخطبة، وجوبا أو استحباباً؛ فلا حديث أثناء الدعاء.
واستثنى الحنابلة -في وجه من المذهب- جواز الحديث عند دعاء الخطيب، وقالوا إنه ليس من الخطبة.
وتعقب ذلك بعض أهل التحقيق من الحنابلة المتأخرين، كالشيخ ابن سعدي والشيخ ابن عثيمين واعتبروه قولاً مرجوحاً، وأشار ابن قدامة إلى احتمال عدم الجواز.
قال ابن قدامة رحمه الله:
"فصل: إذا بلغ الخطيب إلى الدعاء، فهل يسوغ الكلام؟
فيه وجهان: أحدهما، الجواز؛ لأنه فرغ من الخطبة، وشرع في غيرها، فأشبه ما لو نزل.
ويحتمل أن لا يجوز؛ لأنه تابع للخطبة، فيثبت له ما ثبت لها، كالتطويل في الموعظة.
ويحتمل أنه كان دعاء مشروعا، كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات، وللإمام العادل: أنصت له. وإن كان لغيره لم يلزم الإنصات؛ لأنه لا حرمة له " انتهى من "المغني" لابن قدامة (3/ 200).
وقال في "الكافي في فقه الإمام أحمد" (1/ 337):
«فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة؛ أشبه التطويل في الموعظة».
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله معلقاً على كلام ابن قدامة:
"الشيخ: الوجه الثاني - لا يباح الكلام أثناء الدعاء-هو الصحيح؛ أنه ما دام الخطيب لم يسكت، فإن الواجب الإنصات" "تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة" (2/ 237 بترقيم الشاملة).
وجاء في "منية الساجد بشرح بداية العابد" (ص221):
واختار السِّعدي: يحرم الكلام ولو لم يكن في أركانها، ولو شرع في الدُّعاء؛ لأنَّ الخطبة اسمٌ لمجموع ذلك كلِّه، ولعموم النَّهي انتهى.
والقول بمنع كلام المأموم، والمأموم لا يزال في خطبته، بما في ذلك الدعاء: هو الأقوى، والأظهر في الدليل؛ فالكل يسمى "خطبة"، ولا دليل على خروج الدعاء عنها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ) . رواه البخاري ( 892 ) ومسلم (851).
قال الشيخ عبد العزيز بن محمد الحجيلان، بعد ما حكى خلاف الفقهاء في ذلك، وأدلة كل فريق: "الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بتحريم الكلام حال دعاء الخطيب مطلقا، لقوة ما استدلوا به، ولعموم الأدلة الدالة على تحريم الكلام على الحاضر حال الخطبة، فهي لم تفرق بين الدعاء وغيره، وبين المشروع وغيره، خاصة وأن الخطيب لا يمكن أن يدعو بشيء مجمع على عدم مشروعيته، فهذا بعيد جدا، بل قد يدعو بشيء مختلف في مشروعيته" انتهى، من "خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية" (ص361).
رابعاً"
مما سبق يتبيّن أنّ الكلام، ومس الحصى وما يشبهه: ممنوع أثناء دعاء الإمام في الخطبة الثانية، عند جمهور العلماء. وهو الذي تدل عليه الأدلة، وآثار السلف.
وأما الحركة التي يحتاجها الحاضر أثناء الخطبة، ليتعدل في مجلسه، أو يدفع النعاس عنه، أو نحو ذلك من الحاجات المعتبرة: فلا حرج فيها، ولا تبطل عليه جمعته.
ولهذا، ندب النبي صلى الله عليه وسلم من نام في مجلسه: أن يتحول عنه، ليدفع عنه النعاس.
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ وراه الترمذي (526) وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وصححه الألباني.
وعند الطبراني في الكبير (6956) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَقُمْ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَلْيُجْلِسْ أَخَاهُ فِي مَكَانِهِ).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"قال صلى الله عليه وسلم (من مس الحصى فقد لغا) لأن مس الحصى يلهيه عن الاستماع للخطبة، ومن لغا فلا جمعة له، يعني يحرم ثواب الجمعة التي فضلت بها هذه الأمة على غيرها.
وإذا كان هذا في مس الحصى، فكذلك أيضاً الذي يعبث بغير مس الحصى، الذي يعبث بتحريك القلم، أو الساعة، أو المروحة التي يحركها ويلفها دون حاجة، أو الذي يعبث بالسواك، يريد أن يتسوك والإمام يخطب. إلا لحاجة، كأن يأتيه النوم أو النعاس؛ فأخذ يتسوك ليطرد النعاس عنه؛ فهذا لا بأس به" انتهى من "شرح رياض الصالحين لابن عثيمين" (2/ 180):
وسئل رحمه الله:
"هل يقاس إغلاق المكيف، وإغلاق جرس الساعة، وإغلاق الباب أثناء خطبة الجمعة على حديث: (مَن مَسَّ الحصى فقد لغا)؟
فأجاب: لا، إذا كان هذا يشوش، وقام الإنسان يغلقه؛ فهو على أجر وعلى خير، بخلاف من مس الحصى، والمراد بالحصى: أن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مفروش بالحصباء، وهي: الحجارة الصغيرة، فبعض الناس -مثلاً- يعبث بهذا، إما يمسحه بيده مثلاً، أو يأخذ حصيات يقلبها، أو ما أشبه ذلك، وهذا لغوٌ لا فائدة منه، أما إنسانٌ مثلاً شَوَّش عليه المكيف، أو سمع صوتاً، فأراد أن يغلقه، كما يوجد الآن في (البياجر) بعضها لها صوت رفيع يشوِّش على من حوله، فهذا ليس من اللغو، بل هذا من إزالة المؤذي" انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (128/ 15 بترقيم الشاملة آليا).
وعليه؛ فإذا كان تحريك هذا الشخص لما يتكئ عليه، لحاجته لذلك، من تعب ونحوه: فلا بأس به، ولا يدخل في النهي الذي تفوت به فضيلة الجمعة.
والله أعلم.