الحكمة والفائدة من بشارة عيسى عليه السلام لأهل زمانه مع بُعد عهده عن نبينا صلى الله عليه وسلم لتعزيز الانتماء إلى أمة واحدة تتعاقب فيها الرسالات الإلهية، وترتبط أنبياؤها في هدف واحد. كما أن الإعلان عن النبي الموعود في أوساط أتباع عيسى عليه السلام لتظل الحجة قائمة عليهم جيلاً بعد جيل محفوظة، غير منسية، ويكون الحكم بالعمل والإيمان مستندًا إلى علم مسبق وتفصيل واضح لشخص النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته.
ما الفائدة من بشارة أهل الكتب السابقة بنبينا إذا كانوا لن يدركوه؟
السؤال: 579546
قال الله تعالى في كتابه العزيز، في سورة الصف، الآية 6: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ، فما هو معنى هذه البشارة التي جاء بها نبي الله عيسى عليه السلام؟
وما هي الفائدة لأهل زمانه من هذه البشارة بنبي اسمه "أحمد" صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كانوا لن يدركوه، أو سيُطلب منهم انتظاره لمئات السنين، ولا يعلمون متى يأتي؟
وما هي الحكمة من هذا الانتظار؟ وما هي الفائدة المرجوة من نبي لا يُدركونه ولا يرونه؟
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولاً:
معنى بشارة عيسى عليه السلام بنبي بعده اسمه أحمد:
في "لسان العرب" (4/563) : "البِشارةُ فِي الأَصل تَقَعُ على الخبر المُفرحِ السَّارّ" انتهى.
قال ابن عاشور رحمه الله في "التحرير والتنوير" (28/181):
"التبشير: الإخبار بحادث يسر، وأطلق هنا على الإخبار بأمر عظيم النفع لهم؛ لأنه يلزمه السرور الحق، فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة" انتهى.
في "تفسير ابن كثير" (8/ 109):
"وقوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف/6] يعني: التوراة قد بشَّرَتْ بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مُبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملإ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه: ... عن جُبَير بْنِ مُطعم، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءٌ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ " انتهى .
قال ابن تيمية رحمه الله: "وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ عَنِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَحْمَدَ" انتهى من "الجواب الصحيح" (2/ 226).
وقال رحمه الله في "الجواب الصحيح" (5/ 304):
"وأما معنى المخلص فهو أيضا ظاهر فيه؛ فإن المسيح هو المخلص الأول كما ذكر في الإنجيل وهو معروف عند النصارى أن المسيح صلوات الله عليه سمي مخلصا ... وقد بشر بمخلص ثان... وقد وصف هذا المخلص الثاني بأنه يثبت معهم إلى الأبد، ومحمد هو المخلص الذي جاء بشرع باق إلى الأبد لا ينسخ" انتهى.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 859):
"(وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف/6] وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي.
فعيسى عليه الصلاة والسلام، كالأنبياء يصدق بالنبي السابق، ويبشر بالنبي اللاحق، بخلاف الكذابين، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق، والأمر والنهي" انتهى.
ثانياً:
الحكمة والفائدة من بشارة عيسى عليه السلام لأهل زمانه مع بُعد عهده عن نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري (3948) عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: "فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سِتُّمِئَةِ سَنَةٍ":
ذكرت البشارة في سورة الصف لتؤكد أن عيسى عليه السلام جاء مصدقًا لما في التوراة، ومبشرًا ببعثة نبي يأتي بعده اسمه "أحمد"، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه البشارة وعدٌ إلهي متجدد عبر الأجيال، ليبقى الناس على علم بمجيئه وينتظروه.
وتحمل البشارة أبعادًا تربوية وعقدية؛ إذ تعزز الانتماء إلى أمة واحدة تتعاقب فيها الرسالات الإلهية، وترتبط أنبياؤها في هدف واحد.
وتأمل كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر عيسى ابن مريم عليه السلام، وتقرير أنه أولى الناس به، وأقربهم منه، ثم بيانه لما بين الأنبياء من وشيجة، ووحدة في العقيدة، وأصل الديانة، وإن كانت شرائعهم شتى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، والأَنْبِياءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ واحِدٌ رواه البخاري (3443).
ورواه أحمد في مسنده (9270) مطولا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَإنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ: رَجُلٌ مَرْبُوعٌ (1) إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، ثُمَّ تَقَعُ الْأَمَنَةُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُودُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ، لَا تَضُرُّهُمْ، فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ .
ثم إن البشارة بذلك، وإذاعتها في أتباع عيسى عليه السلام: فيه ترسيخ لانتظار مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وتشويق إليه، وتهيئة للنفوس إلى الإيمان به واتباعه، وتوريث لذلك عبر الأجيال؛ فمن أدركه، كان لزاما عليه الإيمان به. ومن لم يدركه، فقد أدرك البشارة، ويكفيه الإيمان بخبر نبيه عيسى عليه السلام، والتصديق به. وبذلك تظل الحجة قائمة عليهم جيلاً بعد جيل محفوظة، غير منسية، ويكون الحكم بالعمل والإيمان مستندًا إلى علم مسبق وتفصيل واضح لشخص النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته.
وقد كانت البشارات بقدوم محمد صلى الله عليه وسلم من المسيح وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال ابن عاشور رحمه الله في:
"وإنما أخبرهم بمجيء رسول من بعده؛ لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسول من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم، وهذا الانتظار ديدنهم، وهم موعودون بهذا المخلص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى. فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم، وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناء بهذه الوصية.
وفي الابتداء بها: تنبيه على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر، وأن المنتظر رسول يأتي من بعده وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به، أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه، فيكون انطباقها فاتحة لإقبالهم على تلقي دعوته، وإنما يعرفها حق معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب، لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم. قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [البقرة: 146]. وقال: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) [الرعد/ 43] .
وقد وصف الله بعض صفات هذا الرسول، لموسى عليه السلام، في قوله تعالى حكاية عن إجابته دعاء موسى: ( وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ )، إلى قوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف/ 157])" انتهى .
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟