أولا:
لا حرج في تعلم علم الفلك والنجوم لمعرفة الجهات، والطرق، والقبلة، وأوقات الصلوات، أو للتأمل والتفكر في خلق الله تعالى.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأنعام/97.
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) يونس/5-6.
وقال تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) النحل/16.
قال البخاري في صحيحه: "بَابٌ فِي النُّجُومِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك: 5] خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ" انتهى.
ودعا الله عباده للنظر في آياته ومخلوقاته، فقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) ق/6،
وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الأعراف/185.
وقال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت/ 53.
فدراسة حركة الكواكب والنجوم، ومعرفة مواقعها وتغيراتها، ومتابعة الظواهر الفلكية مثل الاقترانات بين الكواكب والقمر، مما يزيد الإيمان، ويحصل به اليقين بقدرة الله وعظمته، فإن هذه المخلوقات العظيمة المتقنة، تدل على خالق عظيم عليم حكيم.
قال الخطابي رحمه الله: "فأما علم النجوم الذي يُدرك من طريق المشاهدة والحس، الذي يعرف به الزوال، ويعلم به جهة القبلة: فإنه غير داخل فيما نُهِيَ عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً بأكثر من أن الظل ما دام متناقصاً، فالشمس بعدُ صاعدةٌ نحوَ وسط السماء من الأفق الشرقي. وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح دركه من جهة المشاهدة، إلاّ أن أهل هذه الصناعة قد دبروه بما اتخذوا له من الآلة التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته.
وأما ما يُستدل به من جهة النجوم على جهة القبلة، فإنما هي كواكب أرصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها في حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة عنها بالمعاينة، وإدراكنا لذلك بقبولنا لخبرهم؛ إذ كانوا غير متّهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم" انتهى من "معالم السنن" (4/ 230).
ثانيا:
يحرم تعلم الفلك للاستدلال بالأفلاك على المغيبات، أو اعتقاد أن الأفلاك العلوية لها تأثير في الحوادث الأرضية.
وفي ذلك: ما روى أحمد (2840) وأبو داود (3905) وابن ماجه (3726) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ؛ زَادَ مَا زَادَ) وصححه محققو المسند، وحسنه الألباني.
قال ابن رسلان: "من اقتبس) أي: تعلم (علمًا من النجوم) يقال: قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته، وأصل القبس: الشعلة من النار، واقتباسها الأخذ منها.
وفيه حذف تقديره: من اقتبس علمًا من النجوم كان كمن (اقتبس شُعبة) أي: قطعة من السحر، فكما أن تعلم السحر والعمل به حرام، فكذا تعلم النجوم والكلام فيه حرام.
والمنهي عنه ما يدعيه أهل التنجيم من علم الحوادث والكوائن التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، ثم يجيء ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، وهذا تعاطٍ لعلم استأثر اللَّه تعالى به.
وأما علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة، وكم مضى وكم بقي= فغير داخل فيما نهى عنه، ومن المنهي عنه التحدث بمجيء المطر، ووقوع الثلج، وهبوب الرياح، وتغير الأسعار.
و(زاد) من علم النجوم كمثل (ما زاد) من السحر.
وفيه: النهي عن الزيادة على قدر الحاجة من القبلة والوقت" انتهى، من "شرح سنن أبي داود لابن رسلان" (15/ 660).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والتنجيم كالاستدلال بأحوال الفلك على الحوادث الأرضية: هو من السحر؛ ويحرم إجماعا" انتهى من الاختيارات الفقهية ضمن "الفتاوى الكبرى" (5/ 536).
وقال ابن رجب رحمه الله: " علم التأثير باطل محرم، وفيه ورد الحديث المرفوع: مَنِ اقْتَبَسَ شعبة مِنَ النُّجُومِ فقد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ خرجه أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعًا.
وخرج أيضاً من حديث قبيصة مرفوعًا الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ والعيافة: زجر الطير، والطرق: الخط في الأرض.
فعلم تأثير النجوم باطل محرم، والعمل بمقتضاه كالتقرب إِلَى النجوم، وتقريب القرابين لها كفر.
وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إِلَيْهِ للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق= كان جائزًا عند الجمهور.
وما زاد عليه فلا حاجة إِلَيْهِ، وهو يشغل عما هو أهم منه، وربما أدى التدقيق فيه إِلَى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم. كما وقع ذلك كثيرًا من أهل هذا العِلْم قديمًا وحديثًا، وذلك يفضي إِلَى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار، وهو باطل" انتهى من "فضل علم السلف على علم الخلف" ضمن "مجموع رسائل ابن رجب" (3/ 12).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " علم النجوم ينقسم إلى قسمين:
1 - علم التأثير. 2 - علم التسيير.
فالأول: علم التأثير.
وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور، فهذا شرك أكبر؛ لأن من ادعى أن مع الله خالقا، فهو مشرك شركا أكبر، فهذا جعل المخلوق المسخر خالقا مسخرا.
ب- أن يجعلها سببا يدعي به علم الغيب، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا؛ لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء؛ لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة؛ لأنه ولد في النجم الفلاني، فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة؛ لأن الله يقول: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]، وهذا من أقوى أنواع الحصر؛ لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب، فقد كذب القرآن.
ج- أن يعتقدها سببا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئا إلا بعد وقوعه، فهذا شرك أصغر ...
الثاني: علم التسيير.
وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية، فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة، كان تعلمها واجبا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة، فهذا فيه فائدة عظيمة.
الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية، فهذا لا بأس به، وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات، كمعرفة أن القطب يقع شمالا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالا، وهكذا، فهذا جائز، قال تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16].
النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر، فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون.
والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني، فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح.
والصحيح عدم الكراهة، كما سيأتي إن شاء الله ...
قوله: (وكره قتادة تعلم منازل القمر). أي: كراهة تحريم بناء على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبا.
وقوله: (تعلم منازل القمر) يحتمل أمرين:
الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، الليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة؛ لأن كل ليلة له منزلة، حتى يُتم ثمانيا وعشرين، وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب.
الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم، أي: يخرج النجم الفلاني في اليوم الفلاني، وهذه النجوم جعلها الله أوقاتا للفصول؛ لأنها [28] نجما، منها [14] يمانية و [14] شمالية، فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سُهيل، وهو من النجوم اليمانية.
قوله: (ولم يرخص فيه ابن عيينة) هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة.
قوله: (وذكره حرب) من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة.
قوله: (إسحاق) هو إسحاق بن راهويه.
والصحيح: أنه لا بأس بتعلم منازل القمر؛ لأنه لا شرك فيها، إلا إنْ تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك، فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء، فهذا لا بأس به" انتهى من " القول المفيد على كتاب التوحيد" (2/ 5، 10).
والحاصل:
أن علم الفلك منه ما هو مباح -وقد يجب-، ومنه ما هو محرم.
أما التأمل في خلق الله تعالى، والتفكر في نعمه وآلائه وبديع صنعه، فذلك من مثبتات الإيمان، ومقويات اليقين، والمؤمن مدعو إلى هذا التفكر كل وقت، كما قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة/164
وروى البخاري (4569) ومسلم (256) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ [أي تسوّك] فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
والله أعلم.