قول أبي العالية صحيح، وهو ثابت عن بعض الصحابة، وثبت عن غيرهم الفصل بين الركعتين والثالثة.
هل صح عن الصحابة الوتر بثلاث ركعات متصلة؟
السؤال: 577337
ما صِحِّة هذا الكلام؟
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو خَلْدَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنِ الْوِتْرِ، فَقَالَ:"عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَلَّمُونَا أَنَّ الْوِتْرَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، غَيْرَ أَنَّا نَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ، فَهَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ، وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ".
ملخص الجواب
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا الخبر رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2 / 465)، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنِ الْوِتْرِ، فَقَالَ: "عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَلَّمُونَا أَنَّ الْوِتْرَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، غَيْرَ أَنَّا نَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ ، فَهَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ ، وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ".
وهذا الخبر إسناده ظاهره الصحة، فرواته أئمة وثقات.
قال العيني رحمه الله تعالى:
" أبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي.
وأبو خَلْدة اسمه خالد بن دينار البصري الخياط، روى له الجماعة سوى مسلم وابن ماجه.
وأبو العالية اسمه رُفيع بن مهران الرياحي البصري، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي عليه السلام بسنتين، ودخل على أبي بكر الصديق، وصلى خلف عمر بن الخطاب، وروى له الجماعة " انتهى. "نخب الأفكار" (5 / 106).
وقال رحمه الله تعالى:
" قوله: ( مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ )، يعني بتسليمة واحدة في آخرها، وبيّن أنهما وتر الليل، كما أن صلاة المغرب وتر النهار.
قوله: ( غَيْرَ أَنَّا نَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ )، أي في الركعة الثالثة من الوتر بخلاف المغرب، فإنه لا يقرأ في الثالثة منها إلا على سبيل الاستحباب، حتى لو تركها، لا شيء عليه، بخلاف الوتر فإن القراءة فرض في جميع ركعاته" انتهى. "نخب الأفكار" (5 / 107).
وهذا الخبر قد يتبادر منه أن الوتر الذي كان عليه كل الصحابة: عدد ركعاته كعدد ركعات المغرب ثلاث ركعات متصلة بسلام واحد، لا غير.
وهذا الذي عليه مذهب الحنفية.
قال الكساني رحمه الله تعالى:
"وأما الكلام في مقداره.
فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا: الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في الأوقات كلها " انتهى. "بدائع الصنائع" (1 / 271).
لكن كلام أبي العالية: ( عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ): لا يراد به كل الصحابة؛ بل بعض الصحابة الذين أخذ عنهم صفة الوتر، فقد وردت هذه الصورة عن بعضهم.
كما روى عبد الرزاق في "المصنف" (3 / 303)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (4 / 470)، (4 / 493)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2 / 465)، وغيرهم: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ( الْوِتْرُ ثَلَاثٌ، كَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ).
ورواه البيهقي في "السنن الكبير" (5 / 432)، ثم قال عقبه:
"هذا صحيح من حديث عبدِ الله بن مسعود، من قوله؛ غير مرفوع إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم " انتهى.
لكنها ليست هي الصورة الوحيدة المشروعة المتعينة التي نقلها الصحابة رضوان الله عليهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" فروى محمّد بن نصر من طريق الحَسَن: ( أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْهَضُ فِي الثَّالِثَةِ مِنَ الْوِتْرِ بِالتَّكْبِيرِ )، ومن طريق الْمِسْوَر بن مخرمة: ( أَنَّ عُمَرَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ )، ومن طريق ابن طاوس، عن أبيه: ( أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَقْعُدْ بَيْنَهُنّ )، ومن طريق قيس بن سعد، عن عطاء، وحمّاد بن زيد، عن أيّوب مثله، وروى محمّد بن نصر، عن ابن مسعود، وأنس، وأبي العالية أنّهم أوتروا بثلاث كالمغرب ...
ولكنّ النّزاع في تَعَيُّن ذلك فإنّ الأخبار الصّحيحة تأباه " انتهى. "فتح الباري" (2 / 481).
بل من الصحابة من نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوتر بركعة واحدة.
روى البخاري (990)، ومسلم (749): عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن صَلاةِ اللَّيْلِ، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: ( صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً واحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ ما قَدْ صَلَّى ).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وهذا الحديث: يدل على أن التطوع بالليل كله مثنى مثنى، سوى ركعة الوتر، فإنها واحدة " انتهى. "فتح الباري" (9 / 101).
وروى الإمام مسلم (736): عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ: ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وكذلك الروايات الصحيحة عن ابن عباس في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بات عند خالته ميمونة، تدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم يسلم من كل ركعتين، وأوتر بواحدة.
فلهذا رجحت طائفة حديث ابن عمر وابن عباس، وقالوا: لا يصلي بالليل إلا مثنى مثنى، ويوتر بواحدة.
وهذه طريقة البخاري والأثرم " انتهى. "فتح الباري" (9 / 104).
وصح عن بعض الصحابة الوتر بركعة واحدة، وبثلاث ركعات غير متصلة، بأن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي ركعة منفردة.
روى البخاري (991): عَنْ نافِعٍ: ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ والرَّكْعَتَيْنِ فِي الوِتْرِ، حَتَّى يَأمُرَ بِبَعْضِ حاجَتِهِ ).
وروى البخاري (3764): عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قالَ: ( أَوْتَرَ مُعاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشاءِ بِرَكْعَةٍ، وَعِنْدَهُ مَوْلًى لاِبْنِ عَبَّاسٍ، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقالَ: دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ).
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
"وقد اختلف أهل العلم في الوتر؛ فروينا عن ابن عمر أنه قال: الوتر ركعة، ويقول: كان ذلك وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
وممن روي عنه أنه رأى الوتر ركعة: عثمان بن عفان، وسعد بن مالك، وزيد بن ثابت، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وعائشة، وفعل ذلك معاذ القاري، ومعه رجال من أصحاب النبي عليه السلام لا ينكر ذلك عليه منهم أحد " انتهى. "الأوسط" (5 / 171).
وقد جاء التخيير في عدد ركعات الوتر صريحا في حديث أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ ).
رواه الإمام أحمد في "المسند" (38 / 524)، وأبو داود (1422)، وابن ماجه (1190)، وصححه عدد من أهل العلم.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" إسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2403)، والحاكم والنووي والذهبي " انتهى. "صحيح سنن أبي داود" (5 / 164).
وهذا حديث اختلف في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه على أبي أيوب من كلامه.
ورواه النسائي في "السنن" موقوفا ومرفوعا (رقم 1710، 1711، 1712).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
"وقال أبو أيوب الأنصاري: أوتر بخمس، أو بثلاث، أو بواحدة.
خرجه النسائي وغيره - موقوفا.
وخرجه أبو داود والنسائي –أيضا - وابن ماجه مرفوعا.
والموقوف أصح عند أبي حاتم والنسائي والأثرم وغيرهم " انتهى. "فتح الباري" (9 / 114).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وصحح أبو حاتم، والذهلي، والدارقطني في "العلل"، والبيهقي، وغير واحد وقفه، وهو الصواب " انتهى. "التلخيص الحبير" (2 / 862).
وعلى القول بوقفه، فهو ينضم إلى غيره من الصحابة المجوزين للوتر بغير ثلاث متصلة، وأن للمصلي الخيار في اختيار أي هيئة مسنونة أراد.
وروى البخاري (993): عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن القاسِمِ، عن أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قالَ: قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ ما صَلَّيْتَ ).
قالَ القاسِمُ: وَرَأَيْنا أُناسًا مُنْذُ أَدْرَكْنا، يُوتِرُونَ بِثَلاثٍ، وَإِنَّ كُلًّا لَواسِعٌ، أَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ بِشَيْءٍ منه بَأسٌ.
الخلاصة:
قول أبي العالية رجال إسناده ثقات.
لكن المراد بالصحابة هنا بعضهم الذين أخذ عنهم أبو العالية صفة الوتر، لا كلهم، فالوتر بثلاثة متصلة ليست هي الصفة الوحدة المتعينة.
بل ثبت في السنة الوتر بغيرها، وورد عن الصحابة من كان يوتر بواحدة، ومنهم من كان يفصل بين الركعتين والثالثة بالتسليم.
والله أعلم.
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟