تزكية النفوس من مقاصد إرسال الرسل، فبها يرتقي المسلم إلى درجات الكمال والإحسان.
قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ آل عمران/ 164.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الجمعة/ 2.
ولا شك أن تزكية النفس، وترويضها على الطاعة: مطلب شرعي، فإن الله عز وجل أثنى على الذين يسعون لتزكية أنفسهم، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) الشمس/ 9. وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الأعلى/ 14.
والتزكية التي ترفع مستوى الإيمان، وتصل بصاحبها إلى مراتب الإحسان: هي ما كان وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وامتثال سنته، قولا وعملا وهديا وسمتاً.
ومعاقبة النفس على التقصير في الطاعة، أو على فعل المعصية، إن كانت بما لا يضر، فلا حرج فيها، ولذلك أصل من عمل السلف.
روى عبد الرزاق في "المصنف" (2016) عن نافع، عن ابن عمر قال: كان إذا شهد العشاء الآخرة مع الناس صلى ركعات، ثم نام، وإذا لم يشهدها في جماعة، أحيا ليله.
قال: أخبرني بعض أهل معمر أنه كان يفعله. فحدثت به معمرا قال: كان أيوب يفعله
وروى ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (55) أن تميما الداري نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع
وأخرج ابن المبارك في "الزهد" (520) وعبد الرزاق في "المصنف" (4780): عن مهاجر بن القطبية قال: فاتت عبد الله بن أبي ربيعة ركعتا الفجر، فأعتق رقبة.
وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (9/ 228) : "قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حرملة: سمعت ابن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة".
وجاء في "حلية الأولياء" (9/ 12) لأبي نعيم: "حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عبد الرحمن بن محمد، ثنا عبد الرحمن بن عمر، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي أن أباه قام ليلة -وكان يُحيي الليل كله- فلما طلع الفجر رمى بنفسه على الفراش، فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال: هذا مما جنى عليّ هذا الفراش، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض وجلده شيئا شهرين، فقرِح فخذاه جميعا".
وروى ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (53) عن عبد الجبار بن النضر السلمي، قال: مر حيان بن أبي سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعينك؛ لأعاقبنك بصوم سنة. فصامها.
ولابن أبي الدنيا أيضا، في كتاب محاسبة النفس، باب بعنوان: معاقبة النفس، ذكر فيه أخبارا في ذلك.
وما تقدم يدل على مشروعية معاقبة النفس بإلزامها بمزيد من الطاعة، أو حرمانها شيء من ملذاتها.
وقال الذهبي في "السير" (4/ 9): " قال عثمان بن أبي العاتكة: علق أبو مسلم [الخولاني] سوطا في المسجد، فكان يقول: أنا أولى بالسوط من البهائم. فإذا فتر، مَشَق ساقيه سوطا أو سوطين" انتهى.
وفي معاقبة النفس، قال ابن قدامة -صاحب المختصر-رحمه الله: " اعلم: أن المريد إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيراً، أو فعلت شيئاً من المعاصي: فلا ينبغي أن يمهلها، فإنه يسهل عليه حينئذ مقارفة الذنوب، ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة، كما يعاقب أهله وولده.
وكما روى عن عمر رضى الله عنه: أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين.
قال الليث: إنما فاتته الجماعة.
وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين.
وحكى أن تميم الداري رضى الله عنه نام ليلة، لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها، عقوبة للذي صنع.
ومرَّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.
فأما العقوبات بغير ذلك، مما لا يحل: فيحرم عليه فعله.
مثال ذلك: ما حكى أن رجلاً من بنى إسرائيل، وضع يده على فخذ امرأة، فوضعها في النار حتى شلت.
وأن آخر حوّل رجله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع؟ فلما أراد أن يعيد رجله قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله، لا ترجع معى، فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح.
وأن آخر نظر إلى امرأة، فقلع عينيه.
فهذا كله محرم، وإنما كان جائزاً في شريعتهم، وقد سلك نحو ذلك خلق من أهل ملتنا، حملهم على ذلك الجهل بالعلم، كما حكى عن غزوان الزاهد: أنه نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى نفرت.
وروينا عن بعضهم: أنه أصابته جنابة وكان البرد شديداً، وأنه وجد في نفسه توقفاً عن الغسل، فآلي ألا يغتسل إلا في مرقعته، ألا ينزعها ولا يعصرها، فكانت شديدة الكثافة تزيد على عشرين رطلاً". انتهى من مختصر منهاج القاصدين، ص374
والحاصل:
أن لا حرج في معاقبة النفس بإلزامها بشيء من الطاعة، كالقيام والصوم والصدقة، أو بترك بعض المباحات، ولا حرج في الضرب الذي لا يضر؛ وإن كان الأحسن، والأقرب إلى الهدي أن يكون ذلك بالالتزام بشيء من الطاعات؛ ففيه منفعة تأديب النفس، مع ما فيه من مصلحة الطاعة.
والله أعلم.