أولاً:
القيام في الصلاة المفروضة ركن من أركانها، ولا تصح الصلاة بدونه لمن كان قادرًا عليه، باتفاق العلماء.
فإن عجز المكلَّف عن القيام، أو كان القيام يزيد في مرضه، أو يلحقه منه مشقة زائدة عن المعتاد، جاز له أن يصلي قاعدًا، ولا إثم عليه في ذلك.
فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : "كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب رواه البخاري (1066).
وهذا الحديث أصلٌ في بيان التخفيف في أحوال المريض، وترتيب الرخص بحسب الاستطاعة.
قال ابن عبد البر رحمه الله:
"وأوضح ذلك الإجماعُ الذي لا ريبَ فيه؛ فإنَّ العلماء لم يختلفوا أنه لا يجوز لأحد أن يُصلِّيَ، منفردًا أو إمامًا، قاعدًا، فريضته التي كتبها الله عليه، وهو قادر على القيام فيها، وأنَّ مَن فعل ذلك ليس له صلاة، وعليه إعادة ما صلَّى جالسًا؛ فكيف يكون له أجر نصف القائم وهو آثمٌ عاصٍ لا صلاة له؟!...
وأجمعوا أنَّ فرض القيام في الصلاة: على الإيجاب، لا على التَّخيير" انتهى من "الاستذكار" (2/180).
وقال النووي رحمه الله : " أجمعت الأمة على أن من عجز عن القيام في الفريضة: صلاها قاعدا ولا إعادة عليه , قال أصحابنا : ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام , لأنه معذور , وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما ) .
قال أصحابنا : ولا يشترط في العجز أن لا يتأتّى القيام ، ولا يكفي أدنى مشقة ، بل المعتبر المشقة الظاهرة ، فإذا خاف مشقة شديدة، أو زيادة مرض أو نحو ذلك، أو خاف راكبُ السفينة الغرق، أو دوران الرأس: صلى قاعدا ولا إعادة " انتهى من "المجموع" (4/201).
ثانياً:
الاستناد في الصلاة نوعان:
1-الاستناد القوي، بحيث لو زال ما استند عليه سقط، هو بمنزلة ترك القيام، عند الجمهور، فإن كان في الفريضة مع العجز عن القيام: فلا حرج. وإن كان مع القدرة على القيام بطلت الصلاة.
2-الاستناد الضعيف، بحيث لو أزيل ما استند عليه لم يسقط، وهذا مكروه لغير حاجة، فإن كان لحاجة لم يكره.
قال ابن النجار الفتوحي، رحمه الله، في جملة مكروهات الصلاة:
" واستناد إلى جدار أو نحوه -أي يكره-؛ لأنه يزيل مشقة القيام. وإنما يكره إذا كان بلا حاجة إليه؛ " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسن وأخذه اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه" رواه أبوداود. انتهى، من "شرح المنتهى" (2/ 180).
وجاء في "شرح دليل الطالب" (1/338).
" ويُكره أنْ يستندَ بلا حاجةٍ إلى نحوِ جدارٍ ونحوِه؛ لأنَّه يزيلُ مشقَّةَ القيامِ.
فلا يُكره مع الحاجةِ؛ لأنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما أسَنَّ، وأخذَه اللَّحمُ، اتخذَ عمودًا في مصلَّاه يعتمدُ عليه. رواه أبو داود.
فإن استندَ بحيثُ يقعُ لو أُزيلَ ما استنَدَ إليه، بطلتْ صلاتُه، لأنَّه كغيرِ قائمٍ. هذا مع عدمِ الحاجةِ، أمَّا معها فلا يضرُّ الاستنادُ مطلقًا، والحاجةُ: كضعفٍ، وكِبرٍ، ومشقَّةٍ". انتهى.
ثالثاً:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ من لا يستطيع القيام في الفريضة إلا مستنداً الاستناد القوي إلى جدار أو عصا وجب عليه ذلك.
عن أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ، اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ" رواه أبو داود (948) وصححه الألباني.
قال الحصفكي الحنفي رحمه الله:
وإن قدر على بعض القيام ولو متكئا على عصا أو حائط قام لزوما بقدر ما يقدر ولو قدر آية أو تكبيرة على المذهب انتهى من "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" (ص101).
وقال ابن الجلاب المالكي رحمه الله:
ولا يستند إلى جدار، ولا يتكئ على عصا، في مكتوبة ولا غيرها، إلاّ من ضرورة انتهى من "التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس" (1/73).
وقال النووي رحمه الله:
" في مذاهب العلماء في الاعتماد على شيء في حال القيام:
قد ذكرنا تفصيل مذهبنا.
قال القاضي عياض، في مسائل قيام الليل في شرح مسلم:
اختلف السلف في جواز التعلق بالحبال ونحوها، في صلاة النفل، لطولها: فنهى عنه أبو بكر الصديق وحذيفة رضي الله عنهما، ورخص فيه آخرون.
قال: وأما الاتكاء على العصى فجائز في النوافل باتفاقهم؛ إلا ما حكي عن ابن سيرين من كراهته وقال مجاهد ينقص من أجره بقدره.
وأما في الفرائض: فمنعه مالك والجمهور. وقالوا من اعتمد على عصا أو حائط ونحوه، بحيث يسقط لو زال: لم تصح صلاته.
قال: وأجاز ذلك أبو ذر وأبو سعيد الخدري وجماعة من الصحابة والسلف.
قال: وهذا إذا لم يكن ضرورة.
فإن كانت: جاز، وكان أفضل من الصلاة جالسا. والله أعلم " انتهى من "المجموع" (3/ 264).
رابعاً:
تصح صلاة المستند بالناس، ويصلون خلفه قياماً؛ وذلك أن الائتمام يكون بالصورة الظاهرة، وقد صلى قائماً في ظاهر الأمر.
وحديث أم قيس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ، اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ رواه أبو داود (948) وصححه الألباني.
ولم يُفَرَّقْ بين كون ذلك في فريضة أو نافلة. ولا بين كونه إماما أو منفردا .
واعتبر الفقهاء المستند قائما؛ بل ألزموه بالقيام إن قدر عليه مستندا، عوضا عن القعود.
قال ابن قدامة رحمه الله:
وإن قدر على القيام، بأن يتكئ على عصى، أو يستند إلى حائط، أو يعتمد على أحد جانبيه، لزمه؛ لأنه قادر على القيام من غير ضرر، فلزمه، كما لو قدر بغير هذه الأشياء انتهى من
"المغني" (2/ 571).
وقال الشوكاني رحمه الله:
"وقد ذكر جماعة من العلماء: أن من احتاج في قيامه إلى أن يتكئ على عصا أو عكاز أو يستند إلى حائط أو يميل على أحد جانبيه: جاز له ذلك.
وجزم جماعة من أصحاب الشافعي باللزوم، وعدم جواز القعود، مع إمكان القيام مع الاعتماد. منهم المتولي والأذرعي، وكذا قال باللزوم ابن قدامة الحنبلي" انتهى من "نيل الأوطار" (2/ 390).
وقال الشيخ محمود خطاب السبكي رحمه الله:
«واختلفوا في لزوم القيام مستندًا حينئذ فذهبت الحنفية والحنابلة وجماعة من الشافعية إلى وجوب القيام مستندًا، وقالت المالكية لا يجب القيام مستندًا بل يستحب وبه قال القاضي حسين من الشافعية" انتهى من "المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود" (6/ 54).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
«ويجب القيام، ولو معتمدا.
فلو قال قائل: أنا لو قمت معتمدا على عصا أو على عمود، أو على جدار أمكن ذلك، وإن لم أعتمد لم أستطع، فلا تقلني رجلاي؟
فنقول: يجب عليك القيام، ولو معتمدا؛ لعموم الأدلة» انتهى من "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (3/ 293).
وخلاصة القول:
أنّه إذا كان إمامكم يستند على الحائط حال القيام لعذر فصلاته صحيحة وجائزة من غير كراهة، وصلاتكم خلفه صحيحة ولا كراهة فيها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"كل من صحت صلاته صحت إمامته، ولا دليل على التفريق بين صحة الصلاة وصحة الإمامة، فما دام هذا يصلي صلاة صحيحة؛ فكيف لا أصلي وراءه" "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (4/ 217).
والله أعلم.