أولاً:
الجماع في الحج بعد الإحرام وقبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، بالإجماع.
ومن فعله عالما عامدا مختارا فقد فسد حجه، وعليه المضي في النسك الفاسد، وقضاء حجه إن كان فرضاً من العام القادم، وعليه الفدية بدنة يذبحها ويوزعها في الحرم.
قال الله تعالى:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) البقرة/ 197.
والمراد بالرفث في الآية الكريمة الجماع عند جمهور المفسرين.
قال ابن قدامة رحمه الله:
«وكل ما فسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه، إلا أنه في الجماع أظهر؛ لما ذكرنا من تفسير الأئمة له بذلك، ولأنه قد جاء في الكتاب في موضع آخر، وأريد به الجماع، قال الله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم» انتهى من "المغني" (5/ 113).
قال ابنُ عبد البر رحمه الله:
وأجمع علماء المسلمين على أن وطء النساء على الحاج حرام، من حين يُحرم، حتى يطوف طواف الإفاضة. وذلك لقوله تعالى: (فلا رفث) البقرة 197 والرفث في هذا الموضع الجماع عند جمهور أهل العلم بتأويل القرآن انتهى من "الاستذكار" (4/ 257).
وقال ابن المنذر رحمه الله:
فإن عوام أهل العلم قد أجمعوا على أن من جامع عامداً في حجة، قبل وقوفه بعرفة: أن عليه حج قابل، والهدى انتهى من "الإشراف على مذاهب العلماء" (3/ 200).
وينظر: "أضواء البيان" (5/409-410).
ثانياً:
من أفسد حجه بالجماع قبل التحلل الأول فلا يمكنه أن يحوله إلى عمرة؛ بل يلزمه إتمامه، وقضاء حجه من العام القادم، وعليه الفدية: بدنة، يذبحها، ويوزعها في الحرم.
وبهذا أفتى الصحابة رضي الله عنهم واشتهر عنهم من غير خلاف أو نكير، وحكي فيه الإجماع.
فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه قال: أتى رجلٌ ابنَ عمر فسأله عن محرم وقع بامرأته، فسأله، فأشار له إلى عبد الله بن عمرو، فلم يعرفه الرجل، قال شعيب: فذهبت معه فسأله، فقال: بطل حجه، قال: فيقعد؟ قال: لا بل يخرج مع الناس، فيصنع ما يصنعون، فإذا أدركه قابل: حج، وأهدى، فرجعا إلى عبد الله بن عمر، فأخبراه، فأرسلنا إلى ابن عباس، قال شعيب فذهبت إلى ابن عباس معه، فسأله، فقال له مثلَ ما قال ابن عمرو، فرجع إليه، فأخبره فقال له الرجل: ما تقول أنت؟ فقال مثل ما قالا".
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (13550). والبيهقي (5/ 167) وهو صحيح الإسناد. انظر: "ما صح من آثار الصحابة في الفقه" (2/ 849).
قال النووي رحمه الله:
وأجمعت الأمة على تحريم الجماع في الإحرام سواء كان الإحرام صحيحا أم فاسدا، وتجب به الكفارة والقضاء إذا كان قبل التحللين انتهى من "المجموع شرح المهذب" (7/ 290).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"قال بعض أصحابنا: لا نعلم في وجوب القضاء خلافًا في المذهب ولا في غيره، ونصوص أحمد وأصحابه التي توجب قضاء الحجة الفاسدة أكثر من أن تحصر" انتهى من "شرح عمدة الفقه" (4/ 663).
قال النووي:
مذهبنا أنه يلزم من أفسد حجَّه بدنةٌ. وبه قال ابن عباس وعطاء وطاووس ومجاهد ومالك والثوري وأبو ثور وإسحق انتهى من "المجموع شرح المهذب" (7/ 416).
وقال ابن قدامة رحمه الله:
وجملة ذلك: أن الحج لا يفسد إلا بالجماع، فإذا فسد فعليه إتمامه، وليس له الخروج منه. روى ذلك عن عمر، وعلى، وأبى هريرة، وابن عباس، رضى الله عنهم. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي انتهى من "المغني" (5/ 205).
وقال:
"يجب على المجامع بدنة. روي ذلك عن ابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وأبي ثور". "المغني" (5/ 167).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
الجماع قبل التحلل الأول يترتب عليه خمسة أمور:
الأول: الإثم.
الثاني: فساد النسك.
الثالث: وجوب المضي فيه.
الرابع: وجوب القضاء.
الخامس: الفدية، وهي بدنة تذبح في القضاء" انتهى من الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 156):
ثالثاً:
أما المرأة إذا كانت مطاوعة فحكمها كالرجل في كل ما سبق، وإن كانت مكرهة فحجها صحيح، وليس عليها فدية على الراجح من أقوال أهل العلم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"وإن طاوعته زوجته لزمها»، وفي نسخة: لزماها، أي وافقته على الجماع في الحج، أو في العمرة لزماها، أي: البدنة في الحج والشاة في العمرة، أو لزمها، أي: لزمها الحكم.
وإن أكرهها، فظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكرهها لا يلزمها ذلك، وهل يلزم الزوج أن يكفر عن زوجته؛ لأنه أكرهها أو لا؟
الجواب: في المسألة قولان.
المذهب: لا فدية على مكرهة، ولا على من أكرهها؛ لقوله تعالى: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [الأحزاب: 5]، وقوله: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [النحل: 106].
والقول الثاني: أن على مكرهها الفدية، والظاهر القول الأول.
وهل يفسد حجها؟
الجواب: لا؛ لأنها مكرهة" انتهى من "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (7/ 187).
وخلاصة القول: أن من أفسد حجه بالجماع قبل التحلل الأول فلا يمكنه أن يفسخه إلى عمرة ويحرم من جديد؛ بل يمضي في فاسده وعليه بدنة وقضاء حجه.
والله أعلم.