أولا:
الصديقية، كما شرحها ابنُ القيم هي: "كمال الإخلاص والانقياد، والمتابعة للخير والأمر، ظاهرا وباطنا" انظر: "مدارج السالكين لابن القيم" (٢٦١/٢).
وقال رحمه الله:
"الصديقية: هي كمال الايمان بما جاء به الرسول، علما وتصديقا وقياما؛ فهي راجعة إلى نفس العلم؛ فكل من كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقا له: كان أتم صديقية. فالصديقية شجرة؛ أصولُها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل" انتهى، من "مفتاح دار السعادة" (1/80).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله " فالصديقية: مأخوذة من كثرة التصديق، ومأخوذة من كثرة الصِّدق كذلك. فأبو بكر رضي الله عنه أُطلق عليه أنه صديق؛ لكثرة تصديقه بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم" "تفسير جزء عم" لابن عثيمين، (ص ۲۸۰).
ومرتبة الصديقية: هي أعلى المراتب بعد مرتبة النبوة، حيث ذكر الله مرتبتهم بعد الأنبياء، وفوق الشهداء.
قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا النساء/69.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد/19].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذه الأربعة هي مراتب العباد أفضلهم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء ثم الصالحون" انتهى من "مجموع الفتاوى" (۲/ ۲۲۳).
وقال ابن القيم:
"فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصديقية، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 222).
ولمزيد فائدة ينظر الفتوى: (216829)، و(340608).
ثانيا:
أما الرباني؛ فقد شرح الإمام الطبري معناه بكلام جميل، مفيد. قال رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79]:
"وأولى الأقوال عندي بالصواب في "الربانيين": أنهم جمعُ "ربَّاني"، وأن "الربَّاني": المنسوبُ إلى "الرَّبَّان"، الذي يَرُبُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورَهم، و"يَرُبُّها"، ويقوم بها...
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، وكان "الربَّان" ما ذكرنا، و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم = كانوا جميعًا يستحقون أن يكونوا ممن دَخل في قوله عز وجل: (ولكن كونوا ربانيين).
فـ"الربانيون" إذًا، هم عِمادُ الناس، في الفقه، والعلم، وأمور الدين والدنيا.
ولذلك قال مجاهد: وهم فوق "الأحبار". لأن "الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني": الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة، والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم" انتهى من "تفسير الطبري" (5/ 529-530).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
«ربانيين نسبة إلى الرب، ونسبة إلى التربية، فالرباني هو من كان عبدًا للرب عز وجل، الرباني هو الذي يُربِّي الناس على شريعة الله، بالعلم والدعوة، والعبادة والمعاملة، فالرباني منسوب إلى التربية، وإلى الربوبية، فباعتباره مضافا إلى الله: ربوبية، وباعتباره مضافا إلى الإصلاح تربية.
ولكن كونوا ربانيين أي مخلصين للرب، متعبدين له.
كونوا ربانيين أي مربين للخلق على ما تقتضيه الشريعة" انتهى من "تفسير العثيمين: آل عمران" (1/ 453).
ثالثا:
بالمقارنة بين الصديقية والربانية، يظهر أن كليهما من المقامات الإيمانية العليا، لكن بينهما عموم وخصوص وجهي:
فمرتبة الصديقية أعلى وأجل، إذ تتعلق بصدق الإيمان، وتمام اليقين، وكمال الإخلاص، وهي رتبة قلبيّة روحانية تأتي في سلم الفضل بعد النبوة مباشرة.
أما الربانية فهي مرتبة تتصل بالعلم والعمل والتعليم والتربية، ولا يلزم من بلوغها الوصول إلى مقام الصديقية.
وقد يكون المرء ربانيًا من العلماء والدعاة والمصلحين، لكنه لا يبلغ مرتبة الصدّيقين، لعدم تحقق الشروط القلبية الرفيعة في كمال اليقين والصدق.
كما أن الصديق قد لا يكون ممن يتصدر للتعليم والتربية، وإن علا مقامه في الإيمان.
فليس كل صديّق ربانيًا، ولا كل رباني صديّقًا، وإن كان اجتماع الصفتين في العبد أكمل وأعظم.
على أن الأغلب أن تجتمع هاتين الصفتين في حق صاحبهما؛ فإن من تمام صديقية الصديق: أن يقوم على علمه، وعمله، وبهما: في الناس، فيربيهم به، ويدعوهم إليه.
وهكذا الرباني، المنسوب إلى الرب: إنما يكون بكمال تصديقه بـ"ربه"، وقيامه بأمره.
يقول ابن القيم، رحمه الله: والمقصود أنَّ درجة الصدِّيقية، والرَّبانية، ووراثة النبوة، وخلافة الرسالة: هي أفضل درجات الأُمة. ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلّا أنّ كلّ من عَلِم، بتعليمهم وإرشادهم، أو علّم غيرَه شيئًا من ذلك= كان لهم مثلُ أجره، ما دام ذلك جاريًا في الأمة على آباد الدهور. وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعليّ بن أبي طالب: (واللَّهِ لأن يهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعم) انتهى، من "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (2/ 768).
والله أعلم.