أولاً:
الأصل أن المعيون يغتسل بالماء الذي اغتسل به من أصابه بالعين، وهذا يكون ممكنا في حال عُلم أو غلب على الظن من هو الشخص الذي أصابه بالعين، ولذا فإنه يطلب من ذلك الشخص بعينه أن يغتسل للمعيون، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب من عامر بن ربيعه أن يغتسل لسهل بن حنيف عندما أصابه بالعين .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: مَرَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ!! فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا، قَالَ مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ. قَالُوا عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، قَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ، فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفَأَ الْإِنَاءَ مِنْ خَلْفِهِ". رواه البخاري (3509).
وعند أحمد (15550): "فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ"
قال ابن بطال رحمه الله:
فيه من الفقه أنه إذا عرف العائن؛ أنه يقضى عليه بالوضوء لأمر النبي عليه السلام بذلك شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 430).
ثانياً:
إذا لم يعرف العائن، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشرع الاستغسال والاغتسال، وإنما تشرع الرقية، واستدلوا بما رواه مالك في "الموطأ" (3462/ 736) -ط الأعظمي- عن حميد بن قيس المكي، أنه قال: دُخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب، فقال لحاضنتهما: ما لي أراهما ضارعين؟ فقالت حاضنتهما: يا رسول الله، إنه تُسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استرقوا لهما، فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين.
وأصل الحديث عند "مسلم" في "الصحيح" (2198)، و"الترمذي" (2059) وغيرهما، من وجه آخر.
قال الباجي رحمه الله:
في هذا الحديث استرقوا لهما، ولم يأمر بالاغتسال؛ لأن الاغتسال إنما يكون إذا كان العائن معروفا. وأما إذا كان مجهولا فلا سبيل إلى أن يُخص أحدٌ بالاغتسال، وإنما يذهب أذاه بالرقية، والله أعلم انتهى من المنتقى شرح الموطأ (7/ 258):
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله:
وفائدة ذلك؛ أن العائن لا يخلو أن يُعرف، أو يجهل. فإن كان معروفا، توضأ للمعيون، فتداوى، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان مجهولا، استُرقى منه، كما روى في الحديث: "إن هؤلاء تسرع إليهما العين" الحديث انتهى من المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 434).
وقال القرطبي رحمه الله:
أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمَعِين، وأمر هنا بالاسترقاء، قال علماؤنا: إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن، وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه، فإنه يؤمر بالوضوء؛ على حديث أبي أمامة. والله أعلم انتهى من تفسير القرطبي (9/ 228).
ثالثاً:
معرفة العائن قد تكون ظناً وليست يقينا، فإذا حصل الظن بأن العائن واحد من جماعة لا بعينه، أو كان في طلب ذلك من شخص واحد بعينه: مفسدة، وطُلب منهم الاغتسال فلا يظهر أن في هذا بأساً.
وسواء اغتسل بماء كل واحد بمفرده أو خلط ماؤهم جميعا: فلا بأس؛ فإن الماء الذي اغتسل به العائن سيقع على المعيون على كل حال؛ وهذا هو المطلوب.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
انتشرت في الآونة الأخيرة في المدارس، ودور التعليم المختلفة، بأنه إذا أصيبت إحدى الطالبات أو ما سواها بالعين أي الحسد؛ فإنه يدار على جميع الطالبات في قاعة الدراسة بماء في قوارير علبة -مثلاً- ماء صحة، ويطلب النفث من الطالبات في هذه القوارير من كل طالبة، وغالبًا يكون هذا الأمر إلزامي، فما رأي الشرع في نظركم سماحة الشيخ في ذلك؟
فأجاب: لا حرج في هذا، لكن لا يكون إلزامي، يطلب منها أن تنفث فيه، لعل الله ينفع بذلك، تنفث فيه وتقول: اللهم اشفها، اللهم عافها، اللهم اشفه، اللهم عافه، لا حرج في هذا، القراءة في الماء تنفع بإذن الله، وإذا كانت مصابة بالعين وتخشى أنه من زميلاتها فلا بأس، والحمد لله.
وإذا غسلوا لها أيديهم ووجوههم في إناء وشربت منه واغتسلت، هذا حسن، العين تقع بغير اختيار، تقع العين من الإنسان بغير اختياره، فإذا خشي أنها وقعت منهم العين، وأصابها شيء تظن أنه عين من زميلاتها، وغسلوا وجوههم لها، وأيديهم، وشربت منه، واغتسلت، أو قرءوا لها؛ كل هذا حسن إن شاء الله" انتهى
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله:
قوله: (وإذا استغسلتم فاغسلوا) يدل على الأمر بالغسل، والأصل في الأمر الوجوب.
وقصةُ سَهْل بن حُنَيْف مع عامر بن ربيعة –رضي الله عنهما- هذه فيما إذا عُرف العائن وتحدد، فإنه يُطلب منه ولا يُطلب من غيره، وأما إذا لم يُعرف فإنه يُطلب الاستغسال من أكثر من واحد، حتى يغلب على الظن أن العائن واحد منهم، وإذا طُلب الاستغسال من أكثر من واحد، فإنه ينبغي أن يكون الطالب نبيهًا بحيث لا يسلك أسلوبًا يوغر الصدور، بل يُشعر من طَلب منه الاستغسال أنه لا يتهم أحدًا بعينه، وإنما هو يتسبب في شفاء مريضه، ولعل العائن يكون ممن طُلب منه الاستغسال، فيشفى المريض بإذن الله، كما حصل لسهل بن حنيف –رضي الله عنه- في استغسال النبي -عليه الصلاة والسلام- له عامر بن ربيعة –رضي الله عنه" انتهى
والله أعلم