أولاً:
ذكر أهل العلم أنّ الندم شرط من شروط التوبة الصادقة من أي ذنب كان، والردة من أعظم الذنوب وأبشع المعاصي، فالندم عند التوبة منها يكون أشد تأكيداً.
ومعنى الندم على ما حصل من الذنب، ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب ولا يتحسر ولا يحزن، لا بد أن يندم إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني فيندم؟ انظر: تفسير العثيمين: جزء عم (ص131).
والندم عن حصول الردة والخروج من الإسلام أكثر تأكدا من الندم على غيرها من المعاصي مما هو دونها من الصغائر والكبائر، وقد اشترطه العلماء في التوبة من كل ذنب.
وراجع الفتوى (13990) ففيها تفصيل لشروط التوبة
وقد جاء في قصة الصحابي الذي ارتد ثم عاد أنه ندم على ما فعل وعاد إلى الإسلام، وأنّ قومه شفعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ندامته.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ تَنَدَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ سَلُوا لِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ فُلَانًا قَدْ نَدِمَ، وَإِنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَكَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فَنَزَلَتْ: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَسْلَمَ» رواه النسائي (4068) قال الشيخ مقبل رحمه الله: هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (5/ 547).
فلا يتصور من المرء توبة بلا ندم، إذ إنّ عدم الندم على فعل المعصية، يجعل المرء ملازما لها مستمرئا فعلها.
ولأهمية الندم في التوبة وكونها دليلا عليها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الندم توبة) رواه أحمد (3568) وابن ماجه (4252) وصححه الألباني.
فعبر عن التوبة بأحد أركانها المهمة، كقوله (الحج عرفة).
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
"المعنى: الحض عليه وأنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها وما يؤيد" "فتح الباري لابن حجر" (11/ 103).
وقال القاضي عياض رحمه الله:
"إنّ التوبة: الندم، قال وفي ضمن ذلك: ترك فعله في الحال والمستأنف، لأنه إذا ندم على ذنبه لم يفعله الآن وتركه، وعزم على ألاّ يفعله، واحتج بقوله - عليه السلام - " الندم توبة ". وقال آخرون: معناه: معظم شروط التوبة وخصالها، كما قيل: " الحج عرفة " ". "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/ 241):
وقال ابن عبد البر رحمه الله:
«وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض، والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة، فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر، ولا نادم على ذلك، فمحال، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الندم توبة" انتهى "التمهيد" (3/ 153).
وقال النووي رحمه الله:
"وأصلها: الندم، وهو ركنها الأعظم واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور". "شرح النووي على مسلم" (17/ 59):
ثانياً:
أما التوبة من الردة فكما يشترط لها شروط التوبة التي نص عليها أهل العلم، فإنّ لها شروطا زائدة عليها، وذلك أن من توبة المرتد أن ينطق الشهادتين مرة أخرى، وإن يتبرأ من الفعل أو القول الذي حصلت به ردته.
قال الحجاوي رحمه الله:
"وتوبة المرتد "وكل كافر" إسلامه بأن يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته "مع الشهادتين" إقراره بالمجحود به أو قوله: أنا برئ من كل دين يخالف دين الإسلام" انتهى من "زاد المستقنع" (ص:225).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
«فتوبته -المرتد- مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، فالذي ينكر فرضية الصلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فلا تصح توبته؛ لأن الشيء الذي حكمنا بردته من أجله لم يزل مصرا عليه، فلا بد أن يقر مع ذلك بما جحده من فرضية الصلاة، فمن لم يفعل فإنه لا يزال على ردته.
كذلك لو جحد تحريم الزنا، أو الخمر، وهو ممن عاش في الإسلام، وعرف أحكامه، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فلا يكفي ذلك لتوبته؛ لأننا ما حكمنا بردته إلا من أجل إنكاره تحريم ذلك، وهو لا يزال مصرا عليه.
ومن كان كفره بسب الصحابة رضي الله عنهم، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ولكنه أصر على سب الصحابة، فإنه لم يزل مرتدا حتى يقلع عن سب الصحابة، ويبدل هذا السب بثناء" انتهى من "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (14/ 467).
ونطق المرتد بالشهادتين يعيده إلى الإسلام في أحكام الظاهر، نتعامل معه على هذا، وأما كونه ندم أو لم يندم فهذا شرط لقبولها عند الله.
قال الدبوسي رحمه الله:
"إن الندم على ما فات والتوبة مما يمحو الذنب بينه وبين ربه تعالى" "تقويم الأدلة في أصول الفقه" (ص92).
وقال ابن قدامة رحمه الله:
"والتوبة على ضربين؛ باطنة، وحكمية، فأما الباطنة، فهي ما بينه وبين ربه تعالى، فإن كانت المعصية لا توجب حقا عليه في الحكم، كقبلة أجنبية، أو الخلوة بها، وشرب مسكر، أو كذب، فالتوبة منه الندم، والعزم على أن لا يعود...
والتوبة النصوح تجمع أربعة أشياء؛ الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، وإضمار أن لا يعود، ومجانبة خلطاء السوء. وإن كانت توجب عليه حقا لله تعالى، أو لآدمي؛ كمنع الزكاة والغصب، فالتوبة منه بما ذكرنا، وترك المظلمة حسب إمكانه، بأن يؤدي الزكاة، ويرد المغصوب، أو مثله إن كان مثليا، وإلا قيمته. وإن عجز عن ذلك، نوى رده متى قدر عليه" انتهى من المغني (14/ 192).
وقال ابن الحاج رجمه الله:
"التوبة بشروطها: الندم والإقلاع والعزم على ألا يعود ورد التبعات لمن كانت عليه شرط رابع، فالثلاثة الأول متيسرة على المرء؛ لأنها بينه وبين ربه" "المدخل لابن الحاج" (4/ 44).
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله:
"من يتلفظ بكلمة الكفر من المسلمين والعياذ بالله، هل تكفيه التوبة والاستغفار، أم يجب عليه الغسل بعد ذلك؟
فأجاب: "من يتكلم بما يوجب ردته عليه التوبة، ويُستحب له الغسل، وقال بعض أهل العلم يجب الغسل، وقول الوجوب فيه خلاف بين العلماء، والأحوط والأقرب أنه مسنون مشروع.
وإنما الواجب: التوبة، والرجوع إلى الله، والإنابة إليه، والندم على ما مضى منه، والإقلاع من معصيته وكفره، والتوبة إلى الله والعزم الصادق على ألا يعود لذلك.
وبذلك يتوب الله عليه، وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. "فتاوى نور على الدرب لابن باز - بعناية الشويعر" (4/ 167).
والله أعلم.