أولا:
ليس ذلك من معاني حلم الله تعالى، وإنما تتعلق صفة حلم الله بمعاصي العبيد وذنوبهم، وليس بطاعاتهم التي يحبها الله تعالى ويريدها منهم، والإلحاح في الدعاء؛ إنما هو إلحاح في الطاعة التي يحبها الله ويأمر بها.
قال أبو إسحاق الزجاج في "تفسير أسماء الله الحسنى" (ص 45): "الحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، فكل من لا يعاجل بالعقوبة سمي فيما بيننا حليمًا"، انتهى.
وقال الخطابي في "شأن الدعاء" (ص 63): "الحليم: هو ذو الصفح والأناة، الذي لا يستفزه غضبٌ، ولا يستخفه جهلُ جاهل، ولا عصيان عاصٍ، ولا يستحق الصافح مع العجز اسمَ الحلم؛ إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة، والمتأني الذي لا يعجل بالعقوبة"، انتهى.
وحول هذا المعنى دارت عبارات العلماء في تفسير اسم الله تعالى (الحليم)، فأفاد ذلك أن الحلم هو: الصفح عن العاصي بتأخير عقوبته، وإمهال المسيء عسى أن يتوب، فالحلم يتعلق بالمعصية، لا بالطاعة.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"الحليم: الذي له الحلم الكامل، والذي وسع حلمُه أهلَ الكفر، والفسوق، والعصيان، ومنعَ عقوبتَه أن تحل بأهل الظلم عاجلًا، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا، واستمروا في طغيانهم، ولم ينيبوا ... (الحليم) الذي له الحلم الكامل، (العفوُّ) الذي له العفو الشامل، ومتعلَّق هذين الوصفين العظيمين: معصية العاصين، وظلم المجرمين، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، وحلمه تعالى يقتضي إمهال العاصين، وعدم معاجلتهم؛ ليتوبوا"، انتهى من "الحق الواضح المبين" (ص 55، 56)، باختصار.
فالله سبحانه وتعالى يحلم إذا عصاه العباد، يستعتبهم بذلك، فهو: "الحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا"، "تفسير السعدي" (ص 948).
وأما إلحاح السائلين؛ فطاعة يحبها الله تعالى ويريدها منهم، فهو تعالى يحب منَّا أن نواصل دعاءه والطلبَ منه عز وجل، وأن نستمرَّ على حال التذلل له، والطلب منه، وسؤاله تبارك وتعالى أن يعطينا من خيري الدنيا والآخرة.
والله تعالى يريد منَّا ألَّا نعجلَ، ولا نستبطئ الإجابة، ولو بقينا على حال الدعاء والإلحاح عليه تعالى ما بقينا، فهذه حال شريفة من العبودية، يحب الله تعالى أن نثبت عليها إن تأخرت الإجابة.
كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجَل، يقول: دعوتُ فلم يُستجَب لي) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735).
وفي رواية عند مسلم: (قيل: يا رسول الله ما الاستعجال)؟ قال: (يقول: قد دعوتُ وقد دعوتُ، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء).
وشرح ابن رجب الحنبلي رحمه الله آداب الدعاء، والأسباب التي تقتضي إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء: "الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، وهو مِن أعظم ما يُطلَب به إجابةُ الدعاء"، كما في "جامع العلوم والحكم" (1/ 273).
فإذا تبيّن ذلك؛ علمتَ إن شاء الله أنه لا تعلق لاسم الله تعالى (الحليم) بإلحاح السائلين في الدعاء، إذ هي حال يحبها الله ويريدها، ليست عصيانا مما تتعلق به صفة حلم الله تعالى.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (22210)، ورقم: (191329).
ثانيًا:
الذي يدل على أن الله جل جلاله لا يضجر من إلحاح عباده عليه في طلب حاجاتهم، وأنه لا يسأم، سبحانه وجل شانه، من كثرة ما يعطيهم من العطايا، فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك:
روى البخاري (43) ومسلم (785) واللفظ له عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ، تُصَلِّي. قَالَ: (عَلَيْكُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا) .
وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
والحديث رواه ابن منده في كتاب "التوحيد" له، قال: "ذكر الأخبار المأثورة في الملالة وأن الله عز وجل لا يسأم حتى يسأم عبده. التوحيد لابن منده (3/ 256 ت الفقيهي).
قال إبراهيم الحربي، رحمه الله: " قَوْلُهُ: لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ ، عَنِ الْفَرَّاءِ يُقَالَ: مَلِلْتُ أَمَلُّ: ضَجِرْتُ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: مَلَّ يَمَلُّ مَلَالَةً ، وَأَمْلَلْتُهُ إِمْلَالًا ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَمَلُّ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ، حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ". انتهى، من غريب الحديث (1/ 338).
وقال ابن عبد البر، رحمه الله:
قولُه: "إنَّ اللَّهَ لا يمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا". معناه عندَ أهلِ العلم: إنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ مِن الثوابِ والعطاءِ على العملِ حتَّى تَمَلُّوا أنتم، ولا يَسْأَمُ مِن إفْضَالِه عليكم إلا بسَآمَتِكُم عن العملِ له، وأنتم متى تكَلَّفْتُم مِن العبادةِ ما لا تُطِيقُونَ لَحِقَكُمُ الملَلُ، وأدْرَكَكُم الضَّعفُ والسَّآمَةُ، وانقطعَ عمَلُكُم، فانْقَطعَ عنكم الثَّوابُ لانقطاع العملِ. يَحُضُّهم صلى الله عليه وسلم على القليل الدائم، ويُخْبِرُهم أنَّ النُّفوسَ لا تحْتَمِلُ الإسرافَ عليها، وأنَّ المَلَلَ سببٌ إلى قطع العملِ.
ثم قال: «وأمَّا لَفْظُه في قولِه: "إنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا" فلفْظٌ يَخْرجُ على مِثالِ لَفْظٍ، ومعلومٌ أنَّ اللَّهَ عز وجل لا يمَلُّ سَواءٌ مَلَّ الناسُ أو لم يَمَلُّوا، ولا يدخُلُه مَلالٌ في شيءٍ مِن الأشْياءِ، جلَّ وتعالى عُلُوًّا كبيرًا، وإنَّما جاءَ لفظُ هذا الحديثِ على المعروفِ مِن لُغَةِ العربِ، بأنّهم كانوا إذا وضَعُوا لَفْظًا بإزاءِ لَفْظٍ وقُبَالَتَه، جَوابًا له وجَزاءً، ذكَرُوه بمِثْلِ لفظِه، وإنْ كان مُخالِفًا له في معناه، ألَا تَرَى إلى قولِه عز وجل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40]. وقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]. والجزاءُ لا يكونُ سيئة، والقِصاصُ لا يكونُ اعتِداءً؛ لأنه حقٌّ وجَبَ، ومثلُ ذلك قولُ اللَّه تبارك وتعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54]. وقوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14 - 15]. وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15 - 16]. وليس من اللَّه عز وجل هُزُؤٌ ولا مكرٌ ولا كيدٌ، إنّما هو جزاءٌ لمَكْرِهم واسْتِهزائِهم، وجزاءُ كَيْدِهم، فذكَرَ الجزاءَ بمِثْلِ لَفْظِ الابتداءِ لمّا وُضِعَ بحِذائِه. وكذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا"، أي: إنَّ مَن مَلَّ من عمَلٍ يعمَلُه قُطِعَ عنه جَزاؤُه. فأخرَجَ لَفْظَ قَطْع الجزاءِ بلَفْظِ المَلال؛ إذْ كان بحِذائِه وجوابًا له». انتهى، من التمهيد (1/ 394 -396) ت بشار عواد.
وانظر: "الغريبين" لأبي عبيد الهروي (6/ 1778)، "شرح صحيح البخاري" لقوام السنة (2/102-105).
وفي معنى كثرة عطاء الله عباده، وإن أكثروا السؤال، وألحوا، وأكثروا الطلب والحاجات: ما ثبت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا . قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ . قَالَ : اللهُ أَكْثَرُ ) .
رواه أحمد في " المسند " (17/ 213) ، وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة ، وجوَّد إسناده المنذري في " الترغيب والترهيب "، وصححه الألباني في " صحيح الأدب المفرد " (547) ..
وينظر جواب السؤال رقم: (229456)، ورقم: (229456).
وقد مدح الله جل جلاله نفسه بأن عطاءه لعباده دائم، لا ينقطع، وتعرف إلى عباده بذلك، وعرفهم بهذه المدحة العظيمة الجليلة من مدائحه، جل جلاله:
فعن أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ، أَوِ الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ. رواه البخاري (7419)، ومسلم (993).
وهو سبحانه من ندبهم إلى دعائه، وسؤاله مما في خزائنه، وعرفهم بأرجى وقت الإجابة لذلك:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ. رواه البخاري (1145)، ومسلم (758).
وفي لفظ لمسلم (ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ!).
والحاصل:
أن الله عز وجل لا يسأم من كثرة مسائل عباده، بل يحب ذلك منهم، ويدعوهم إليه، وفتح لهم أبوابه، ووعدهم بالعطاء، على مقتضى مشيئته، وحكمته، ورحمته، سبحانه.
والله أعلم.