أولًا:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس أحد يُحاسَب إلا هلك قالت: قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ذاك العرض، يُعرَضون، ومن نوقش الحساب هلك رواه البخاري (4939)، ومسلم (2876).
ففي هذا الحديث يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحساب يوم القيامة نوعان:
(فالنوع الأول من الحساب): حساب فيه عرضٌ من غير مناقشةٍ، وهو الحساب اليسير. ويكون لمن قضى الله تعالى له بالمغفرة والستر، فيدخل الجنة من غير سابقة عذابٍ، وهو الحساب اليسير الوارد في قول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وقد سمَّى الله تعالى هذا العرضَ حسابًا، وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معنى الحساب اليسير هو العرض، الذي يختلف عن الحساب مع المناقشة، الذي يُهلك صاحبَه ويئول به إلى العذاب والهلاك.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "يعني: أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تُعرَض أعمال المؤمن عليه، ويوقَف عليها تفصيلًا، حتى يَعرف منة الله تعالى عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، كما جاء في حديث ابن عمر الآتي بعد هذا"، انتهى من "المفهم" (7/ 158).
وحديث ابن عمر المقصود هو ما رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768) أن رجلا قال لابن عمر رضي الله عنهما: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟
فقال: سمعته يقول: يُدنَى المؤمنُ يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضعَ عليه كنفَه، فيقرِّره بذنوبه! فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أيْ ربِّ أعرف! قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطَى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون؛ فينادَى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله.
قال الشيخ عبد الله الغنيمان: "جاء (الكنف) مفسَّرًا في الحديث بأنه (الستر)، والمعنى: أنه تعالى يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يفتضح أمامهم فيَخزى، لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه؛ تتغيَّر حالُه، ويَظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة"، انتهى من "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" (2/ 422).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وهو العرض اليسير على الله، فيقرِّره الله بذنوبه، حتى إذا ظنَّ العبدُ أنه قد هلك، قال الله تعالى له: (إني قد سترتها عليك في الدنيا، فأنا أسترها لك اليوم)"، انتهى من "تفسيره" (ص 917).
فهذا هو الحساب اليسير، وهو حساب العرض الذي يخالِف مناقشة الحساب، والحساب اليسير هو حساب المغفور لهم ذنوبهم من المؤمنين، وهم الذين يسترهم الله في الآخرة فلا يفضحهم ولا يخزيهم، بعد ظنهم أنهم هالكون بما يقرر لهم من ذنوبهم، نسأل الله السلامة.
(والنوع الثاني من الحساب): حساب مع مناقشة، وهو سوء الحساب:
وفيه يحاقَق العبدُ ويؤخذ بذنوبه، وهذا حسابٌ لمن قضى الله تعالى له أن يعذَّب بالنار، وهو مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس أحد يحاسَب إلا هلك)، وقوله: (من نوقش الحساب هلك)، وفي رواية في الصحيحين: (من نوقش الحساب عُذِّب).
فمراده صلى الله عليه وسلم: أنه ما من أحد يحاسب فيُسأل في موقف الحساب ويناقَش ويحاقَق؛ إلا كان ممن لا يغفر الله له، فيُعذَّب بالنار بعد حسابه هذا، وهو سوء الحساب، الوارد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ.
قال الطبري: "وقوله: وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنبٍ، فهم لرهبتهم ذلك جادّون في طاعته، محافظون على حدوده"، ثم روى عن أبي الجوزاء، - أوس بن عبد الله أحد علماء التابعين وعبَّادهم من تلاميذ عائشة وابن عباس – أنه قال في تفسير سُوءَ الْحِسَابِ قال: "المناقشة بالأعمال"، كما في "تفسير الطبري" (13/ 507).
وهذا النوع من الحساب: يكون لمن قضى الله تعالى لهم بالنار، فإنَّ (من نوقش الحساب عُذِّب) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الموحدين من هؤلاء المعذَّبين، وهم أهل الكبائر؛ تكون عاقبتهم في الجنة ومنتهاهم إليها، فيُخرَجون منها وإن عذِّبوا ما شاء الله.
ولخص كل ذلك قوامُ السنة الأصبهانيُّ رحمه الله، بما نقله عن بعض العلماء مقرًّا له، قال: "قال بعض العلماء: يحاسِب الله عباده في القيامة، ويناقشهم؛ يحاسِب بالعرض مَن قضى له بالمغفرة، ويناقِش بالحساب مَن قضى عليه بالعذاب، ويحاسِب الكافر، غير أن المؤمن عاقبته الجنة، والكافر عاقبته النار"، انتهى من "الحجة في بيان المحجة" (2/ 507).
ثانيًا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون رواه البخاري (6472) ونحوه عند مسلم (218).
فبيَّن هذا الحديث: أن هؤلاء السبعين ألفًا لا يُحاسَبون أصلا. وهذا يشمل -بظاهره- النوعين المذكورين من الحساب، فهم كما لا يقفون أمام الله تعالى موقف (سوء الحساب)، فكذلك لا يقفون أمامه تعالى موقف (الحساب اليسير)، فكل نوع من هذين قد سماه الله تعالى (حسابا)، وفي الحساب اليسير من الخوف والكرب ما سبق شرحه.
فهؤلاء الذين يدخلون الجنة من غير حساب؛ يعافيهم ربُّهم من موقف التقرير بالذنب، الذي هو موقف شدة وخوف وتغيّر في أوَّلِه، قبل أن ينتهي موقفهم ببشرى الله لهم بالعفو عن ذنوبهم تلك، في موقفهم ذاك، كما كان سترها عليهم في الدنيا!
هذا؛ وظاهر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم ينصرفون من موقف الحشر، فيدخلون الجنة، قبل بدء الفصل والقضاء والحساب، وأن الباب الأيمن من أبواب الجنة خاص بهم وحدهم، مع مشاركتهم لغيرهم في بقية الأبواب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:
... فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحدٍ قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل مِن أمَّتك مَن لا حساب عليهم، من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .. الحديث رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).
ويتبيّن بما سبق أن الذين يدخلون الجنة من غير حساب، لهم منزلة خاصة بهم، فلا هم يحاسَبون سوء الحساب، ولا يحاسبون الحساب اليسير.
فمما اختصوا به أيضًا:
أنهم لا يُسألون عن الأمور الأربعة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدما عَبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه رواه الترمذي (2417) وصححه، وصححه كذلك الشيخ الألباني في "الصحيحة" (946).
وذلك أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما عبدٍ): أن قدمَه لا تزول "من موقفه للحساب، إلى جنةٍ أو نارٍ"، كما قال ابن علان في "دليل الفالحين" (4/ 300).
فالذين لا يُحاسبون لن يقفوا هذا الموقف، ولن يُسأَلوا هذه الأسئلة.
قال أبو العباس القرطبي في "المفهم" (7/ 158):
"قوله: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع): (عبدٍ) هنا: يراد به العموم؛ لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصَّصٌ بمن لا حساب عليه، وهم الزمرة السابقة إلى الجنة أولا، الذين يقال للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه، من الباب الأيمن)، وبقوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ.
ويؤيد هذا ما قد صح في الحديث: أنه يَخرج من النار عنقٌ فيقول: وكلت بكل جبار، وكأنَّ المراد بهذا الحديث الأكثر من الناس، والله تعالى أعلم"، انتهى.
وشرح الحافظ ابن حجر أن حديث (لا تزول قدما عبد) يتضمن - في نفسه - الإشارةَ إلى أن السؤال مخصوص ببعض الناس، قال: "وذلك أنه ليس كلُّ أحدٍ عندَه علم يُسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم، وبمن له مال، دون من لا مال له، ومن لا علم له، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعامٌّ. ويُخَصُّ مِن المسئولين مَن ذُكر"، انتهى من "فتح الباري" (11/ 414).
فتبيَّن بذلك أن حديث لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، قد استُثني منه مَن يدخلون الجنة من غير حساب، فإنهم لا يُسألون عن هذه الأربع ولا غيرها.
وكذلك؛ فإنهم لا يقفون من الله تعالى موقف النجوى، لأنه موقف الحساب اليسير، الذي فيه تُعرَض عليهم ذنوبهم، فيقررون بها ثم يعفو الله عنها.
والله أعلم.