أولا:
قد صحّ أن صوم يوم عاشوراء شرع قبل فرض صوم شهر رمضان.
كما ورد عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ لاَ يَصُومُهُ" البخاري (3831)، ومسلم (1125).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ، لَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ " رواه مسلم (1128).
ثانيا:
وأما تشريع صوم ثلاثة أيام من الشهر، فقد وردت روايات تدل على أن هذا الصوم شرع أيضا قبل فرض صوم شهر رمضان.
فقد روى الإمام أحمد في "المسند" (36 / 436)، وأبو داود (507)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (1 / 304)، وغيرهم: عن يَزِيد بْن هَارُونَ.
وروى الإمام أحمد في "المسند" (36/436)، وغيره: عن أَبي النَّضْرِ.
وأبو داود (507)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (1 / 417)، وغيرهما: عن أَبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ.
والطبري في "التفسير" (3/ 161): عن يونسُ بنُ بكير.
الأربعة ( يَزِيد بْن هَارُونَ، وأَبو النَّضْرِ، وأَبو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ، ويونس بن بكير ) يروون: عن الْمَسْعُودِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: ( أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَالصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ ).
فَذَكَرَ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ الثَّلَاثَةَ. ثُمَّ قَالَ:
( وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَصَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَهَا كَذَا سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا [ وفي رواية: فَصَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ إِلَى رَمَضَانَ ] ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) [البقرة: 183] … ).
وقد ضُعّف هذا الإسناد بأمرين:
الأمر الأول: أن المسعودي كان قد اختلط، ورواة هذا الخبر ممن رووا عنه بعد الاختلاط.
قال محققو المسند: " وكلهم ممن روى عنه بعد الاختلاط " انتهى.
قال العراقي رحمه الله تعالى في تعليقه على قول ابن الصلاح رحمه الله تعالى:
" ( المسعودي ممن اختلط وهو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي، وهو أخو أبي العميس عتبة المسعودي. ذكر الحاكم أبو عبد الله في كتاب "المزكين للرواة" عن يحيى بن معين أنه قال: من سمع من المسعودي في زمان أبي جعفر، فهو صحيح السماع، ومن سمع منه في أيام المهدي، فليس سماعه بشيء.
وذكر حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل أنه قال: سماع عاصم، هو ابن علي، وأبي النضر، وهؤلاء من المسعودي: بعد ما اختلط )...
وفيه أمور: أحدها: أن المصنف اقتصر على ذكر اثنين ممن سمع منه بعد الاختلاط، وهما: عاصم بن على، وأبو النضر هاشم بن القاسم، وممن سمع منه أيضا بعد الاختلاط: عبد الرحمن ابن مهدي، ويزيد بن هارون، وحجاج بن محمد الأعور، وأبو داود الطيالسي، وعلى بن الجعد ... " انتهى. "التقييد والإيضاح" (ص452).
لكن يونس بن بكير لا نعلم هل سمع منه قبل الاختلاط أم بعده.
الأمر الثاني:
أن ابن أبي ليلى لم يسمع من معاذ رضي الله عنه. فالإسناد منقطع.
قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى:
"وعبد الرّحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ بن جبل، ولا من عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه، صاحب الأذان؛ فغير جائز أن يحتجّ بخبَر غير ثابت ... " انتهى. "صحيح ابن خزيمة" (1 / 230).
لكن المسعودي قد تابعه شعبة، عند أبي داود، إلا أنّ ابن أبي ليلى لم يصرح فيه أنه سمعه من صحابي.
روى أبو داود (506): عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: " أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ …
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُنْزِلَ رَمَضَانُ …".
وقد وردت روايات فيها التصريح بأن أصحاب ابن أبي ليلى هؤلاء الذين حدثوه؛ هم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا نص على صحة هذا الخبر عدد من أهل العلم.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقول ابن أبي ليلى: (حدثنا أصحابنا) إنما أراد به الصحابة رضي الله عنهم، كما صرح به الأعمش عن عمرو بن مرة، كما يأتي. وقد تردد في ذلك المنذري، فقال في "مختصره":
"وقول ابن أبي ليلى: (حدثنا أصحابنا)؛ إن أراد الصحابة؛ فهو قد سمع من جماعة من الصحابة، فيكون الحديث مسندًا؛ وإلا فهو مرسل"!
والرواية المشار إليها تعين الاحتمال الأول، كما قال الحافظ في "التلخيص". قال:
" ولهذا صححها ابن حزم وابن دقيق العيد ".
وقال الزيلعي في "نصب الراية":
" أراد به الصحابة؛ صرَّح بذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه"، فقال: حدثنا وكيع: ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: .... انتهى.
وأخرجه البيهقي في "سننه" عن وكيع … به. قال في "الإمام": وهذا رجال "الصحيح"، وهو متصل على مذهب الجماعة في عدالة الصحابة، وأن جهالة اسمهم لا تضر".
قلت: وكذا قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" نحو ما قال ابن دقيق العيد في "الإمام" أنه على شرط "الصحيح".
وكذلك أخرجه الطحاوي (1 / 79 و80) -عن يحيى بن يحيى النيسابوري-، والبيهقي (1 / 420) -عن عبد الله بن هاشم-، وابن حزم في "المحلى" (3 / 157) -عن موسى بن معاوية- كلهم عن وكيع … به. وقال ابن حزم:
"وهذا إسناد في غاية الصحة". " انتهى. "صحيح سنن أبي داود" (2 / 426 — 428).
وقد اختلف أهل التفسير هل هذه الأيام الثلاثة كانت على سبيل الفرض، أم على سبيل التطوع؟
فقيل كانت على سبيل الفرض.
فروى الطبري في "التفسير" (3 / 157)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (1 / 304): عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )، وَكَانَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ نَسْخَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ".
وروى عبد الرزاق في "التفسير" (1 / 308)، ومن طريقه الطبري في "التفسير" (3 / 158): عن مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: " وَقَدْ كَانَ كَتَبَ عَلَى النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ شَهْرَ رَمَضَانَ - صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ".
ونحو هذا روي عن عطاء، رواه سعيد بن منصور "السنن - التفسير" (2 / 677)، والطبري في "التفسير" (3 / 157).
قال الثعلبي رحمه الله تعالى:
" قال المفسرون: فرض الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين عليهم السلام: صوم يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة، فكانوا يصومونها إلى أن نزل صيام شهر رمضان قبل قتال بدر بشهر وأيام " انتهى. "تفسير الثعلبي" (4 / 406).
وقيل كانت على سبيل التطوع.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:
" وقال آخرون: بل الأيام الثلاثة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومها قبل أن يفرض شهر رمضان، كان تطوّعا صومهنّ ...
حدَّثنا محمدُ بنُ المثنى، قال: حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ، عن شعبةَ، عن عَمرِو بنِ مُرَّةَ، قال: حدثنا أصحابُنا: ( أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما قدِمَ عليهم، أمَرهم بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، تطوُّعًا لا فريضةً، قال: ثم أُنْزِلَ صيامُ رمضانَ ) " انتهى. "تفسير الطبري" (3 / 158 — 159).
الخلاصة:
من المتفق عليه أن يوم عاشوراء شرع صومه قبل فرض رمضان.
وكذا ورد أنه قبل فرض صوم رمضان، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأمر بذلك، وصحح هذا الخبر غير واحد من أهل بالحديث.
وأما تعيين هذه الأيام الثلاثة، بأنها كانت من الأيام البيض؛ فهذا لم يرد فيه خبر صحيح.
والله أعلم.