أولا:
ثبت بنصوص الكتاب والسنة أنه كان بالمدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من المنافقين، ووجودها لم يكن له أي أثر في طريق وصول نصوص السنة النبوية إلينا.
ولفهم هذا الموضوع وتبيّنه، لا بد من الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة؛ لأننا إنما علمنا بوجود المنافقين من هذه النصوص، فلا بد من الرجوع إليها لفهم أحوالهم وصفاتهم، فبإحاطتنا بصورة المنافقين كاملة، يتبين لنا هل كان لهم دور في الرواية أم لا؟
وعند تتبع هذه النصوص يتبيّن لنا أمران مهمان:
الأمر الأول:
أن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة قليلة محصورة.
ونعلم، على جهة القطع واليقين: أنه لم يكن في المهاجرين منافق؛ لأن الهجرة منافية للنفاق.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا: أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا، وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم، لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة؛ لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره، بل مع احتمال الأذى، فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه.
ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار، صار بعض من لم يؤمن بقلبه، يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه، لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة، وصار معهم السيف يقتلون من كفر." انتهى. "منهاج السنة النبوية" (8 / 475).
فلذا كان النفاق موجودًا في جماعة من أهل المدينة ومن حولها ممن لم يرغب في الإسلام، لكن خاف الهلاك أو فوات شيء من حظوظ الدنيا، إن بقي معلنا بكفره، وهؤلاء كانوا قلة، وقد كان كثير منهم - مع قلتهم - معروفين بصفاتهم، أو بحوادث أظهرتهم بأعيانهم كأهل مسجد ضرار، ونحو هذا.
روى البخاري (4882)، ومسلم (3031): عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: " قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ. قالَ: التَّوْبَةُ هِيَ الْفَاضِحَةُ، ما زَالَتْ تَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا … ".
فلذلك كان المجتمع المسلم له علم بكثير منهم، بصفاتهم أو بأشخاصهم.
كما يشير إلى هذا ما رواه الإمام مسلم (654): عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ".
وكما في حديث توبة كعب بن مالك، رضي الله عنه، لما تخلف عن غزوة تبوك، ففيه قول كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: " فَكُنْتُ إذا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ … " رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر حذيفة بأسمائهم، وقد بين حذيفة رضي الله عنه، أنه قد مات أكثرهم مبكرا قبل انتشار وشهرة حركة الرواية وتفرغ التابعين لجمع السنة.
روى الإمام البخاري (4658): عن زَيْد بْنِ وَهْبٍ، قالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فقالَ: " ما بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَلا مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ ".
وحذيفة رضي الله عنه توفي سنة 36 هـ في بداية خلافة علي رضي الله عنه، وهذا يبين أنه لم يكد يبقى منهم أحد زمن انتشار طلب الحديث وجمعه.
الأمر الثاني:
أن هؤلاء المنافقين، كان همهم الدنيا ومكاسبها، ولم يكن لهم اهتمام بالعلم أو التظاهر به، فلم يكونوا من أهل مجالس الذكر والعلم.
قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا النساء/142.
وإن حضروا في هذه المجالس كانوا في غفلة واعراض.
قال الله تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ محمد/16.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) يعني المنافقين.
وفيما يستمعون قولان:
أحدهما: أنه سماع خطبة رسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة. والثاني: سماع قوله على عموم الأوقات. فأما الذين أوتوا العلم، فالمراد بهم: علماء الصحابة...
وفي استفهامهم قولان:
أحدهما: لأنهم لم يعقلوا ما يقول، ويدل عليه باقي الآية. والثاني: أنهم قالوه استهزاء " انتهى. "زاد المسير" (7/402).
بل كانوا هم أنفسهم ينزعون عن أنفسهم صفة العلم، ويتمايزون عن أهل العلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما روى الطبري في "التفسير" (11/543)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (6 / 1829)، قالا: حَدَّثَنَا يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، أَنْبَأَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حدثنا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي مَجْلِسٍ يَوْمًا: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاءِ لَا أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً، وَلا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ لأُخْبِرَنّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قال عبد الله: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن).
ومن كان لا يهتم بالعلم ولا يتظاهر به ولا يعد نفسه من أهله، فلا شك عقلا وعادة أن مثل هذا لا يعيّن في وظيفة دينية ولا تعليمية، ولا يقبل عليه طلاب الحديث، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أن أهل النفاق كانوا مصروفين عن شأن الرواية، وأنه لم يكن يحدث إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى الإمام مسلم في "مقدمة الصحيح" (1 / 10): عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: " جَاءَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَعْنِي بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي، أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ".
وروى أيضا في "مقدمة الصحيح" (1/ 10): عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا لِي لَا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَسْمَعُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا نَعْرِفُ".
وبشير بن كعب هذا من التابعين، وهذا يوضح أن زمن الصحابة لم يكونوا يتهمون أحدا من الصحابة رضوان الله عليهم بتعمد الكذب، وإنما ظهرت ظاهرة الكذب في عهد التابعين الذين أدركهم صغار الصحابة كابن عباس رضي الله عنه، فلذا لما حدثه بشير بأحاديث لم يَذْكر له عمن أخذها، توقف ابن عباس رضي الله عنه فيها؛ وخشي أن يكون بشير بن كعب قد سمعها من شخص غير مأمون؛ فأعرض عنها، اكتفاء بما علم مخرجه وأصله من السنة.
فبهذا كله؛ يُعلم أن جميع الرواة من الصحابة الذين صح عنهم العلم لا يوجد فيهم منافق بحمد الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وينبغي أن يُعرف: أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه؛ فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه.
والعلم بكون الرجل مؤمنا في الباطن، أو يهوديا، أو نصرانيا، أو مشركًا: أمر لا يخفى مع طول المباشرة؛ فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ...
والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يعظمهم المسلمون على الدين؛ كلهم كانوا مؤمنين به، ولم يعظم المسلمون، ولله الحمد، على الدين منافقا.
والإيمان يُعلَم من الرجل، كما يُعلم سائر أحوال قلبه، من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك؛ فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة، والأمور الظاهرة، تستلزم أمورا باطنة، وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه " انتهى. "منهاج السنة النبوية" (8 / 474).
ولمزيد الفائدة طالع جواب السؤال رقم: (294379).
ثانيا:
وكان ظهور الكذب في عصر التابعين، بعد فتن الاختلاف بالأبدان والآراء، بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وازداد مع ازدياد ظهور البدع، وظهور الزنادقة المنافقين؛ خاصة في عهد الدولة العباسية.
فألهم الله تعالى أئمة الحديث إلى اتباع سبل تحمي السنة من دخول الكذب فيها، ومدار هذه السبل على ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
أنهم اشترطوا أن يكون المحدث الذي يسمعون منه الحديث موثوقا به في دينه وخلقه، بأن يكون ممن لا يُعرف بكفر ولا فسوق ولا كذب.
وقد تتبع أهل العلم من عهد الصحابة الرواة جرحا وتعديلا.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
" وقد أقام الله عز وجل قوما من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، والتابعين بعدهم، وتابعي التابعين وإلى يومنا هذا من يبين أحوالهم، وينبه على الضعفاء منهم، ويعتبر رواياتهم ليعرف بذلك صحيح الأخبار من سقيمها...
وهم في المرتبة التي يُسْمَع ذلك منهم، ويقبل قولهم فيهم لمعرفتهم بهم، إذ هو علم يدق، ولا يحسنه إلا من فهمه الله ذلك " انتهى. "الكامل في ضعفاء الرجال" (1 / 78).
الأمر الثاني:
اشترطوا لقبول الخبر أن يسمي الراوي شيخه الذي أخذ عنه الخبر، حتى يعرف هل هو ثقة أم لا.
كما قال ابْنِ سِيرِينَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ " رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1 / 15).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال...
فيعني بذلك - والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك " انتهى. "المفهم" (1 / 123).
وقال العلائي رحمه الله تعالى:
" وقول ابن سيرين: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم ".
قلت: لأن المبتدعة كذبت أحاديث كثير تشيد بها بدعتها، قال ابن عباس رضي الله عنه -لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه-: " قاتلهم الله أي علم أفسدوا". رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" أيضا.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: كان ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين؛ يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي، ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب " انتهى. "جامع التحصيل" (ص 69 – 70).
ثم إذا سمى الراوي شيخه، يدرس أئمة نقد الحديث صحة سماعه منه وربما سألوا الراوي أين التقى بشيخه لمعرفة صدقه، وربما رحلوا إلى هذا الشيخ للتأكد من هذه الرواية.
ومثال ذلك: ما رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4 / 110)، والطبري في "تهذيب الآثار - مسند علي" (ص 27)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1 / 247): عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: " أَمَّرَنِي يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ عَلَى جُرَشَ، فقَدِمتُها، فحدَّثوني أنَّ عبدَ اللَّه بنَ جعفرٍ حدَّثهم أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اتَّقُوا صاحبَ هذا الدَّاء -يعني الجُذامَ- كما يُتَّقَى السَّبُعُ، إذا هبَط واديًا فاهبِطُوا غيرَه ". فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ ابنُ جعفرٍ حَدَّثَكُمْ هَذَا مَا كَذَبَكُمْ، قَالَ: فَلَمَّا عَزَلَنِي عَنْ جُرَشَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، مَا حَدِيثٌ حدَّثه عَنْكَ أَهْلُ جُرَشَ؟ ثُمَّ حدَّثْتُه الحديث. فَقَالَ: كَذَبُوا، وَاللَّهِ مَا حَدَّثْتُهُمْ ... ".
الأمر الثالث:
أنهم كانوا يقومون بتتبع مرويات الراوي، واختبارها بمقارنتها بروايات غيره من الرواة، لمعرفة مدى ضبطه وحفظه، فإذا كان يخالف الرواة، ويأتي بالغريب من الأخبار كان هذا سببا لتضعيفه.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرِضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مستعمله...
لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه: قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته، وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما، على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما، أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم= فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس " انتهى. "مقدمة صحيح مسلم" (1 / 6).
وقال رحمه الله تعالى:
" فبجمع هذه الروايات، ومقابلة بعضها ببعض، تتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواةُ ضِعافِ الأخبار من أضدادهم من الحفاظ " انتهى. "التمييز" (ص 209).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" وكان الأئمة يعتبرون حديث كل راو، فينظرون كيف حدّث به في الأوقات المتفاوته، فإذا وجدوه يحدِّث مرة كذا، ومرة كذا، بخلافٍ لا يُحتمل: ضعَّفوه، وربما سمعوا الحديث من الرجل، ثم يدعونه مدة طويلة، ثم يسألونه عنه.
ثم يعتبر حرف مروياته، برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات، حكموا عليه بحسبها.
وليسوا يوثِّقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مرّ، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطيء ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا " انتهى. "الأنوار الكاشفة" (ص 81).
ثمّ لا يكتفون للحكم بصحة الخبر على النظر في عدالة راويه وضبطه، بل يعتنون أيضا بالنظر في شُهرة الخبر نفسه، فقد يردون أحيانا ما يتفرد به الراوي المتفق على أنه ثقة ضابط، فكيف بخبر يكذبه منافق أو كذاب؟!
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
" والأحاديث التي وضعتها في "كتاب السنن" أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم.
ولو احتج رجل بحديث غريب، وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به، إذا كان الحديث غريبا شاذا.
فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح: فليس يقدر أن يرده عليك أحد " انتهى. "رسالة أبي داود إلى أهل مكة" (ص 29).
ولهذا لما قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال:
" يعيش لها الجهابذة " رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2 / 18).
الخلاصة:
الثابت عقلا ونقلا أن السنة النبوية قد حفظت من كذب المنافقين ومكرهم.
فالمنافقون الذين كانوا في عصر النبوة، كانوا منصرفين عن العلم والتظاهر به إلى التكالب على الدنيا، ثم قد ماتوا كلهم تقريبا قبل انتشار حركة الرواية وطلب الحديث، فلذا لا يوجد في رواة الصحابة منافق بحمد الله تعالى.
وأما أهل النفاق والزندقة الذين ظهروا بعد عصر الصحابة، فقد ألهم الله تعالى أهل العلم الاجتهاد في وضع ضوابط تقبل بها السنة، وذلك بأن اشترطوا لصحة الخبر أن يكون راويه معروفا بالإسلام والعدالة، وأن يسمي شيخه ليعلموا هل هو ثقة أم لا؟ ثم ينظرون في مروياته فإن كان يأتي بالغريب من الأخبار التي لا يرويها غيره، فإن هذا التفرد يعدونه سببا لرد خبره، وإذا أكثر من ذلك ضعفوه، وربما اتهموه بالكذب، فلم يتركوا بحمد الله تعالى مجالا يمكن أن يتسلل منه المنافقون لدس المكذوب من الأخبار.
قال الحاكم رحمه الله تعالى:
" فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه= لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها، كانت بُتْرًا " انتهى. "معرفة علوم الحديث" (ص 115).
والله أعلم.