أولا:
يجب عليك أن تجتهد لإدراك الجماعة، فإن غلب على ظنك أنك لو انتظرت الجماعة سوف يغلبك النوم، وتفوتك صلاة الفجر في وقتها؛ فلك أن تصلي الفجر في وقتها، مع جماعة البيت إن أمكن. فإن لم تجد جماعة، صليت منفرداً.
ثم احرص على ألا يكون ذلك ديدنك، فتتهاون في صلاة الجماعة. وانظر: فتوى رقم: (40150).
ثانياً:
أما عن المفاضلة بين الصلاة في أول وقتها منفرداً، والصلاة في آخر وقتها جماعة ، فقد اختلف العلماء في ذلك :
فذهب الحنفية والحنابلة: إلى أن تأخير الصلاة لتحصيل فضيلة الجماعة، أفضل من الإتيان بها منفرداً في أول وقتها. انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 367)، "كشاف القناع" (1/457).
وذهب المالكية: إلى أن الصلاة في أول الوقت أفضل منها في آخر الوقت في جماعة .انظر: "مواهب الجليل" (1/404).
وقال الإمام النووي رحمه الله من الشافعية بالتفصيل؛ فقال في "المجموع" (2/303): " الَّذِي نَخْتَارُهُ: أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَمَرَّةً فِي آخِرِهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَتِهَا.
فَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ: فَإِنْ تَيَقَّنَ حُصُولَ الْجَمَاعَةِ آخِرَ الْوَقْتِ، فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ، لِتَحْصِيلِ شِعَارِهَا الظَّاهِرِ. وَلِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِنَا، وَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى وَجْهٍ لَنَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٍ؛ فَفِي تَحْصِيلِهَا خُرُوجٌ مِنْ الْخِلَافِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنْ فَحُشَ التَّأْخِيرُ، فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ. وَإِنْ خَفَّ، فَالِانْتِظَارُ أَفْضَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى.
والذي يظهر من هذا –والله أعلم- : أن المحافظة على الصلاة مع جماعة المسلمين، أولى من الصلاة منفرداً، لما هو معلوم من فضل الصلاة في جماعة، وحرصا على إقامة هذه الشعيرة ، ولأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجماعة واجبة .
وينبغي عليك أن ترتب مواعيد نومك واستيقاظك، على توقيت الصلاة، فتنام مبكرا، وإن شق عليك التهجد وقتا طويلا، أو كان ذلك سيؤدي إلى نومك عن صلاة الجماعة، فليكن اهتمامك بصلاة الجماعة أوكد، ولو أخرت استيقاظك للتهجد إلى ما قبل أذان الفجر، وتصلي ما أمكنك. أو تجعل شيئا من صلاتك في أول الليل، قبل نومك، وتتمها، ولو بشيء قليل عند استيقاظك.
فإذا شق عليك الانتظار إلى هذا الوقت أحياناً، مع احتياطك للأمر على ما سبق؛ فلا حرج عليك من الصلاة في أول الوقت منفرداً، إذا لم تجد أحدا تصلي معه في جماعة .
وينظر: إجابة رقم: (97516).
ثالثاً:
روى الإمام مسلم في "صحيحه" (657) عن جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
قال النووي في "شرح مسلم" (5/158):" الذِّمَّة هنا: الضمان، وقيل: الأمان " انتهى.
وفي المراد بالحديث قولان للعلماء:
الأول: أن المراد بالحديث: النهي عن التعرض بالأذى لكل مسلم صلى صلاة الصبح، فإن من صلى صلاة الصبح فهو في أمان الله وضمانه، ولا يجوز لأحد أن يتعرض لِمَن أمَّنَه الله، ومن تعرض له، فقد أخفر ذمة الله وأمانه، أي أبطلها وأزالها، فيستحق عقاب الله له على إخفار ذمته، والعدوان على من في جواره. انظر: فيض القدير للمناوي (6/164).
ويدل لهذا المعنى ما رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4/5) بسنده، وقال الألباني عنه في "صحيح الترغيب" (1/110): صحيح لغيره، عن الأعمش قال: كان سالم بن عبد الله بن عمر قاعدا عند الحجاج، فقال له الحجاج: قم فاضرب عنق هذا، فأخذ سالم السيف، وأخذ الرجل، وتوجه باب القصر، فنظر إليه أبوه وهو يتوجه بالرجل، فقال: أتراه فاعلا ؟! فردَّه مرتين أو ثلاثا، فلما خرج به قال له سالم: صليت الغداة ؟ قال: نعم. قال: فخذ أي الطريق شئت، ثم جاء فطرح السيف، فقال له الحجاج: أضربت عنقه ؟ قال: لا، قال: ولِمَ ذاك ؟ قال: إني سمعت أبي هذا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن صَلَّى الغَدَاةَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُمسِيَ!!
والقول الثاني: أن يكون المقصود من الحديث: التحذير من ترك صلاة الصبح والتهاون بها، فإن في تركها نقضا للعهد الذي بين العبد وربه، وهذا العهد هو الصلاة والمحافظة عليها.
انظر: "فيض القدير" (6/164)، وفتوى رقم: (72559).
رابعاً:
الحديث رواه مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ ....
ورواه الروياني في مسنده (2/ 139) بنفس إسناد مسلم ومتنه دون ذكر زيادة (في جماعة).
وزيادة لفظة (في جماعة) لم نقف عليها عند المتقدمين لأنها وقعت بعد زمنهم، ولم ترد في الكتب التسعة، ولذا لا تجد كلاما للأئمة المتقدمين عليها.
الحديث جاء من عدة طرق عن مجموعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وهم :
جندب بن عبد الله بن سفيان ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وأبو بكر الصديق ، وأبو مالك الأشجعي ، عن أبيه . رضي الله عنهم أجمعين.
وكلهم رووا هذا الحديث من غير هذه الزيادة؛ منهم: أحمد (18814)، وعبد الرزاق (18250)، والترمذي (222)، وابن ماجه(3945)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (939)، وأبو يعلى (1526)، وأبو عوانة في مستخرجه(4/ 86)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1683) (2/ 166)، وفي "الأوسط" (2454)، وغيرهم.
زيادة في جماعة غير محفوظة:
فقد أخرجها أبو نعيم في "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (2/ 252) (1467): قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَنَا أَبُو حَفْصٍ الرَّقَّامُ ثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ (فِي جَمَاعَةٍ) فَهُوَ في ذِمَّةِ اللَّهِ فَلا يَطْلُبَنَّكَ اللَّهُ بِذِمَّتِهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ أَخْفَرَ اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ.
وزيادة (فِي جَمَاعَةٍ) لم يروها إلا أبو نعيم في مستخرجه.
تفرد بها أبو حفص الرقام، عن نصر بن علي.
وأبو حفص، هو مُحَمَّد بن أحْمَد بن حَفْص، الرَّقّام، التُّسْتَريُّ:
وقد روى مسلم والرويّاني كلاهما قال: حدثني نصر بن علي (بدون ذكر هذه الزيادة).
وأبو حفص ترجم له السَّمْعاني في "الأَنْسَاب" (6/155)، وهو (مجهول الحال).. كما في بلوغ الأماني بتراجم شيوخ أبي الشيخ الأصبهاني (2/838) وإرشاد القاصي والداني إلى تراجم شيوخ الطبراني (ص487) 3246.. ومصباح الأريب في تقريب الرواة الذين ليسوا في تقريب التهذيب (4/160).
والحاصل:
أن زيادة (في جماعة): ليست محفوظة من حديث جندب، لتفرد أبي حفص الرَّقّام بها، وهو مجهول الحال، لا يُحتمل ذلك منه.
وأما بقية الصحابة الذين رووا الحديث، فلم تذكر هذه الزيادة في أحاديهم.
وقد ضعف هذه الزيادة الألباني في حديث جندب رض الله عنه؛ وقال في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/298):"ليست هي في حديث أبي بكر الصديق ولا في حديث جندب اللذين بعده" انتهى.
خامساً :
يُفهم من إطلاق لفظ الحديث كما عند مسلم مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ ....
أن كل من صلى الصبح في وقتها فهو في ذمة الله سواء صلاها في جماعة أو منفرداً.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح صحيح مسلم (3/680-681):
"ظاهر الحديث من "صلى الصبح" أنه سواء صلاها في جماعة أو في غير جماعة، مع أن الترجمة في فضل صلاة العشاء والفجر في الجماعة؛ فإما أن يكون هناك رواية أخرى أو لفظ آخر يقيد الحديث، أو يقال: إن هذا يقيده قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر".
وإن حمل على ظاهره وإطلاقه: ففضل الله واسع، وإنما نص على الصبح لأنها تأتي في وقت النوم الذي يكون أريح ما يكون لكثير من الناس، لا سيما في عصرنا هذا حيث كان الناس يسهرون الليالي، ثم تكون نومتهم في آخر الليل" انتهى.
وأما كون الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله في باب الجماعة: فالتبويب ليس من صنع الإمام مسلم، وإنما أورده هنا لأنه أنسب موضع لها.
وقد رواه الترمذي - رحمه الله - في سننه، كتاب الفتن (6/ 320) في بابُ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ الله عَز وَجَل.
وقال ابن ماجه - رحمه الله - في سننه (5/ 93) في باب: المسلمون في ذمة الله عز وجل.
ولم يقيد الترمذي وابن ماجه رحمهما الله كون صلاة الصبح في جماعة.
وعموم الحديث، كما يستفاد من قوله (مَن) يدخل فيه النساء، ومن لم يكن عنده جماعة، ومن تخلف عن الجماعة لعذر، أو فاتته، ونحوهم. وفضل الله واسع.
قال في مراقي السعود في ذكر صيغ العموم:
صيغة كل أو الجميع ... وقد تلا الذي التي الفروع
أين، وحيثما، ومن، أي، وما ... شرطا ووصلا وسؤالا أفهما
انظر: نشر البنود على مراقي السعود (1/ 213)
والحاصل:
أن من ترك صلاة الفجر في جماعة بدون عذر فهو مذموم، يخشى عليه من شبه المنافقين. لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى المُنَافِقِينَ مِنَ الفَجْرِ وَالعِشَاءِ" رواه البخاري (657) ومسلم (651)، فالمتخلف عن الجماعة في صلاة الصبح بدون عذر فيه شبه من المنافقين . انظر: فتوى (123571).
ومن كان معذوراً، فقد دلت الأدلة على أن له ما نواه.
والقاعدة: أن كل عمل رُتب عليه ثواب، وحال دونه مانع، فإنه يكتب لصاحبها الأجر في ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا "رواه البخاري(2834) ..
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وَهُوَ فِي حَقّ مَنْ كَانَ يَعْمَل طَاعَة، فَمُنِعَ مِنْهَا وَكَانَتْ نِيَّته لَوْلَا الْمَانِع أَنْ يَدُوم عَلَيْهَا" انتهى من "فتح الباري" (6/ 136).
وقال القرطبي رحمه الله في "المفهم" (3/ 730):
"وأمَّا من تحقق عجزه، وصدقت نيتُه، فلا ينبغي أن يُختلف في: أن أجره مضاعف، كأجر العامل المباشر؛ لما تقدَّم، ولما خرَّجه النسائيُّ من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقومَ يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح؛ كان له ما نوى، وكان نومُه صدقة عليه)" انتهى. والحديث رواه النسائي (1787)، وابن ماجه (1344)، وصححه الألباني.
ونرجو أن فاتته صلاة الفجر في جماعة لعذر، أن يشمله فضل حديث: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله"، سواء أثبتنا رواية (في جماعة) لفظاً، أو معنى؛ لأن من حبسه العذر، أدركه الأجر.
والله أعلم .