قال الله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) النحل/66.
وقال سبحانه: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) المؤمنون/21.
والآية واردة في سياق الامتنان بالنعمة، وبيان كمال القدرة، لأخذ العبرة، فناسب أن يذكر أصل اللبن، وأنه يخرج من طعام يجتمع في البطن، ثم يكون بعضه فرثا، وبعضه دما، وبعضه لبنا، وهذا أبين مما لو قيل: من الضرع، دون ذكر أصله واستخلاصه من بين الفرث والدم.
فموضع العبرة هنا: كونه يخرج من بين الفرث والدم، وليس مجرد الإنعام باللبن.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/581): " «وقوله: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا أي: يتخلص اللبن، بياضه وطعمه وحلاوته، ما بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فيصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير به.
وقوله: لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ أي: لا يغصُّ به أحد» انتهى، من "تفسير ابن كثير - ط ابن الجوزي" (4/ 690) ".
وقال الخطيب الشربيني رحمه الله في "السراج المنير" (2/242): " وإنّ لكم في الأنعام لعبرة أي: اعتباراً إذا تفكرتم فيها، وعرفتم كمال قدرتنا.
وإنما ذكّر لفظ الضمير؛ لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، كالرهط والقوم، ولأمن اللبس، والدلالة على قوّة المعنى، لكونها سورة النعم، وأنثه في سورة (المؤمنون) للمعنى؛ فإنّ الأنعام اسم جمع، ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكياش- بياء تحتية وشين معجمة- ضرب من الثياب يغزل مرتين.
ومن قال: إنه جمع نَعَم، جعل الضمير للبعض؛ فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها...
ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره، قدّم قوله تعالى: من بين فرث وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش" انتهى.
وقال المراغي رحمه الله في تفسيره (14/ 103): " فإن الله جلت قدرته جعل الحيوان يتغذى بما يأكل من نبات ولحوم ونحوهما، حتى إذا هضم المأكول، تحول بإذنه تعالى إلى عصارة نافعة للجسم، وفضلات تطرد إلى الخارج، ومن هذه العصارة يتكون الدم الذي يسرى في عروق الجسم لحفظ الحياة، وبعض هذا الدم يذهب إلى الغدد التي في الضرع، فتحولها إلى لبن، فكأنّ الصانع الحكيم جعلها مصنعا ومعملا لتحويل الدم إلى لبن" انتهى.
فالمقصود بيان أصل اللبن ومصدره، والاعتبار بذلك، لا بيان نهاية أمر تكونه وخروجه، فأصل اللبن دم خلص من فرث، وأصل الجميع طعام اجتمع في البطن، فميز الله هذا عن هذا، بكمال علمه وقدرته.
والله أعلم.