هل قوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} يدل على صفة اليد أم الكرم؟

السؤال: 558147

يشتهر تفسير قوله صلى الله عليه وسلم (يداه مبسوطتان) إنها إثبات لصفة اليد على الحقيقة، لكن أثناء تصفحي لتفسير الطبري وجدت آثارا عن ابن عباس رضي الله عنه يفسر قول الله تعالى عن وصف اليهود (يد الله مغلولة) بالبخل، ولا يعقل أن يتهم اليهود الله بالبخل، فيرد عليهم بآية تدل على أن له يدا على الحقيقة، فكيف يمكننا الجمع بين تفسير السلفية وبين تفسير ابن عباس؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

لا تعارض بين أثر ابن عباس في تفسير الآية، وبين إثبات صفة اليدين لله تعالى، بل أثر ابن عباس مما استدل به الطبري وغيره من أهل السنة على إثبات صفة اليدين لله تعالى، ويتبين ذلك بأمور:

أولًا:

صفة اليدين من الصفات الثابتة لله تعالى، بدلالة نصوص كثيرة مستفيضة من القرآن والسنة قد دلت على إثباتها لله تعالى، فلذا أجمع على إثباتها الصحابة والسلف والأئمة قبل أن ينكرها من أنكرها من أهل البدع.

فمن أدلة القرآن قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وقوله تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وهاتان الآيتان من أوضح الأدلة على إثبات صفة اليدين، وقد استدل بهما وبغيرهما من الآيات والأحاديث على إثبات اليدين صفةً لله تعالى: جمعٌ كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين يعسر حصرهم.

قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا والبيان: أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، فكذبهم في مقالتهم، وقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ؛ وأعلمنا أن: الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، وقال: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تَرْجَعُونَ، وقال: تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا"، انتهى من "التوحيد" (1/ 118)، ثم ذكر جملة من الأحاديث الدالة على إثبات اليدين.

وقال أيضًا رحمه الله: "قوله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ... أراد عزَّ ذكرُه باليدين: اليدين، لا النعمتين كما ادَّعت الجهمية المعطلة"، انتهى مختصرًا، من "التوحيد" أيضًا (1/ 159).

وأما نصوص السنة؛ ففي كتب السنة نصوص متعددة مستفيضة، مروية في كتب العقائد المسندة، وكتب الحديث، وكتب الرد على المبتدعة، استدل بها مع أدلة القرآن جمعٌ لا يحصون من العلماء على إثبات صفة اليدين لله تعالى.

فنكتفي هنا ببعض ما أورده البخاري ومسلم في الصحيحين، فقد عقد الإمام البخاري في (كتاب التوحيد) من "صحيحه": "باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ"، ثم أورد من الأحاديث الدالة على صفة اليدين لله تعالى:

1- حديث الشفاعة، وفيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الناس يقولون لآدم عليه السلام يوم القيامة: (خلقك الله بيده). وهو في البخاري (7410)، ومسلم (193).

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ)، وقال: (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغِضْ ما في يده)، وقال: (عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع)، وهو في البخاري (7411)، ونحوه عند مسلم (993).

3- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضَ، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك)، وهو في البخاري (7412)، وفي الحديث إثبات اليمين لله تعالى.

4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يهوديًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه)، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

وفي رواية: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا له. وهو في البخاري (7414)، ونحوه رواياتٌ عند مسلم (2786).

5- وأخرج الإمام مسلم في صحيحه (1827) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المُقسِطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا).

والمقصود: أنه يجب استحضار أصول الأدلة وأقوال الأئمة، وفهم أثر ابن عباس وغيره في سياق واحد، جامع لذلك كله، وسواء في ذلك صفة اليدين أو غيرها.

ثانيًا:

ما ورد في السؤال من إشكالٍ إنما يصحُّ إذا كان الخلاف حول معنى كلمة (مبسوطتان) التي جاءت ردا على اليهود في وصفهم يد الله بأنها (مغلولة)، سبحانه وتعالى عما يقولون.

أي: بأن يقول قائل: هذه الآية نزلت ردًّا على اليهود الذين اتهموا الله بالبخل، تعالى الله وتقدّس، فلا بد أن يكون معنى (مبسوطتان) هو ضد البخل، فيكون معنى البسط في الآية هو: الجود والكرم وكثرة الرزق وسعته، لا أن يكون معنى البسط هو مدُّ اليدين.

وهذا صحيح، وليس محل خلاف، وأهل السنة يقولون: إن هذا هو مقتضى لغة العرب، وهو معنى الآية، مع إثباتها لليدين صفة لله تعالى.

وكذلك قول القائل: (زيد يده مغلولة لا يصِلُنا منه عطاءٌ)؛ فظاهرها وما تدل عليه في الخطاب: أن زيدًا بخيل، ويده ممنوعة من الإنفاق، وليس أن يده ممنوعة بمعنى: مربوطة بالحديد مع عنقه حقًّا كالأسير.

وذلك أن الأيدي المغلولة: هي الممنوعة، المجعول فيها غُلّ، وهو الحديدة التي تَجمع يد الأسير إلى عنقه، كما قال ابن الأثير في " النهاية في غريب الحديث" (3/ 380).

فإذا أجيب عن هذا الاتهام بـ: (بل؛ زيدٌ يداه مبسوطتان)، كان هذا السياق كله، اتهامًا وجوابًا؛ دالًّا على أن المراد من هذا الجواب: (بل؛ زيد كريم جواد منعِم)، وكانت هذه المعاني في هذا السياق هي (المعنى الظاهر من السياق)، لكل من (مغلولة) و(مبسوطتان)، وكان المفهوم من كلام كلٍّ من المُتَّهِم والمُجيب: أن لزيدٍ يدَين حقيقيتين، فلا تعارض بين إثبات اليد الحقيقة، وبين وصفها بأنها مبسوطة أي: أنه كريم جواد، أو مغلولة أي: أنه بخيل.

وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية أنك إذا قلتَ: فلانٌ مبسوط اليد، فإنه يُفهم من ذلك المعنيان؛ الأول: أن له يدًا حقيقية، والثاني: أنه موصوف بالكرم والجود، قال رحمه الله بعد ذِكر عدد من أدلة إثبات صفة اليدين:

"وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين، مختصتين به، ذاتيتين له، كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السموات بيده اليمنى، وأن يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضمًا لليد إلى العنق، صار من الحقائق العرفية.

إذا قيل: هو مبسوط اليد، فُهِم منه: يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبخل، كما قال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، ويقولون: فلان جَعْد البنان وسَبْط البنان"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (6/ 363).

وكذلك فإنَّ قولك: (بيده الملك)، أو: (عملته يداك)، مهما كان المعنى الواسع المراد من هذا الأسلوب، فإنه لا يقال إلا لمن كانت له يد حقيقية، ثم لا بأس من التوسع في المعنى.

قال شيخ الإسلام:

"ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو: عملته يداك؛ فُهِمَ شيئان: أحدهما: إثبات اليد. والثاني: إضافة الملك والعمل إليها.

والثاني يقع فيه التجوُّز كثيرًا، أما الأول؛ فإنهم لا يُطلقون هذا الكلام إلا لجنسٍ له يدٌ حقيقةٌ، ولا يقولون: يد الهوى، ولا يد الماء، فهب أن قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ قد عُلِم منه أن المراد (بقدرته)، لكن لا يتجوَّز بذلك إلا لمن له يد حقيقة"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (6/ 369).

فيتبين بذلك أنَّ قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُفهم منه معنيان لا تعارض بينهما:

الأول: أن لله يدين حقيقةً، والثاني: أنه تعالى موصوف بالجود والكرم، لا كما قالت اليهود لعنهم الله بما قالوا.

وكذلك يتبين: أن العرب قد يتوسعون في استعمال معنى (البسط)؛ يريدون به الجود والكرم، أو استعمال (القبض) أو (الغلول)؛ يريدون البخل أو الإمساك، لكنهم لا يقولون (يده مبسوطة) أو (يده مغلولة) إلا في حق له يد حقيقية.

وهذا المعنى الذي الواضح، وبيان طرائق العرب في بيانهم، وتوسعهم في لغاتهم، يقرره الطبري في تفسيره لهذه الآية الكريمة. يقول:

" إنما وصف تعالى ذكره "اليد" بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:

يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ … وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ

فأضاف ما كان صفة صاحب اليد، من إنفاق وإفادة إلى "اليد".

ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى؛ فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم، فقال: (وقالت اليهود يد الله مغلولة)، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده، الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله". انتهى، من "تفسير الطبري" (10/ 451).

ثالثًا:

قال الله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وليس شأن الاستدلال بالآية كما في السؤال: أن اليهود اتهموا الله بالبخل، فكان الجواب: إنَّ لله يدًا حقيقية، وهذا سبق شرحه، لكن وجه الدلالة في الآية على إثبات يدين لله تعالى، صفةً ثابتةً ذاتيةً لله تعالى، هو التثنية في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ.

فإن أسلوب التثنية قد نفى كل احتمال، ولم يُبق إلا إثبات الصفة الحقيقية لله تعالى.

وإذا أتممت قراءة الموضع الذي أشرتَ إليه من تفسير الطبري؛ تبيّن لك أن الطبري رحمه الله قد سار على نهج الصحابة والسلف أهل السنة والجماعة، وما تقتضيه لغة العرب: فأثبت صفة اليدين لله تعالى بهذه الآية، ولم يكن أثر ابن عباسٍ ولا غيره مما أورده بنفسه من الآثار إلا مؤيدًا لذلك دالًّا عليه.

وهو ما شرحه الإمام الطبري في "التفسير"، فقد أورد في (8/ 553) ما هو مذكور في السؤال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليس يعنون بذلك أن يد الله موثَّقة، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا)، ثم ذكر جملة من الآثار أيضًا، ثم شرح فقال رحمه الله:

"واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فقال بعضهم: عني بذلك نعمتاه ... وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة ... وقال آخرون منهم: بل يده ملكه ... وقال آخرون منهم: بل يد الله صفةٌ من صفاتِه هي يدٌ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم".

ثم ذكر من أدلة القائلين إن اليدين صفة من صفاته، قولهم: "لو كان كما قال الزاعمون إن يد الله في قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ هي نعمته، لقيل: بل يده مبسوطة، ولم يقل: بَلْ يَدَاهُ لأن نعمة الله لا تحصى بكثرة ...

فإن ظن ظان أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ؛ وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد، لأداء الواحد عن جميع جنسه ... فأما إذا ثُني الاسم؛ فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع، ودون غيرهما ...

قالوا: ففي قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، ومع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع: ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع: النعمة، وصحة قول من قال: إن يد الله هي له صفة.

قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل" انتهى مختصرًا من "تفسير الطبري" (8/ 556).

ويجب الانتباه إلى قول الطبري في أول كلامه: "اختلف أهل الجدل"، ثم ختامه كلامه بقوله عن من قال إن اليدين صفة من صفاته تعالى: "... وقال به العلماء وأهل التأويل"! ففرق بين أهل الجدل، وبين العلماء وأهل تأويل كتاب الله تعالى، أي: أهل تفسيره وبيان مراد الله تعالى منه.

ولا شك أن ابن عباس من العلماء وأهل التفسير هؤلاء، وأن الأثر الذي أورده عنه مما استند الطبري عليه في ما ذهب إليه.

ومما يؤكد لك مذهب الإمام الطبري ومراده؛ أنه ذكر في (20/ 252) من "التفسير" أيضًا، قولَ بعض أهل اللغة من البصريين في معنى وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ: إنها بمعنى (في قدرته)، وأن قَبْضَتُهُ مثل قولك للرجل: (هذا في يدك وفي قبضتك).

ثم قال الطبري رحمه الله: "والأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وغيرهم، تشهد على بُطولِ هذا القول"، انتهى.

فهو يُبطِل هذا القول الذي قاله لغويٌّ بصريٌّ في معنى قَبْضَتُهُ تعالى، ويقرر ما شهدَت به الأخبار التي ذكرَها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وكان منها بعض ما ذكرناه أول هذا الجواب، كحديث: (إن الله يقبض الأرض يوم القيامة بيده، ويطوي السماء بيمينه ويقول: أنا الملك)، وحديث: (يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده)، وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها، ثم يقول: (أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟)، ونحو ذلك من الأحاديث.

وكان قد ذكر عدة آثار مسندة عن ابن عباس أيضًا، وقدّمَ كلَّ ذلك بقوله: "وروي عن ابن عباس وجماعة غيره أنهم كانوا يقولون: الأرض والسموات جميعا في يمينه يوم القيامة"، كما في تفسيره (20/ 245)، فالأرض جميعًا في يمين الله التي من يديه تعالى، يوم القيامة، في قول ابن عباس، والطبري، وأهل السنة جميعًا.

ثم إنّ الطبري قد أعرب عن نفسه في عقيدته التي صنفها، فقال: ".. نثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل، على ما يُعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه؛ فنقول: ... وله يدان ويمينٌ وأصابع، وليست جارحةً، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير"، انتهى من "التبصير" (ص142).

والمقصود ذكره هنا:

أن أثر ابن عباس المذكور في السؤال، لا يتناقض مع ما تثبته الآية، أن (اليدين) صفة ثابتة لله تعالى، حقيقية، وهما يدان ذاتيتان مختصتان به تعالى، ويؤكده فهم وشرح الإمام الطبري راوي الأثر، في نفس كتابه "التفسير" في مواضع منه، ثم في عقيدته المفردة.

وقال ابن قتيبة رحمه الله ردًّا على جهمية عصره الذين جعلوا اليد في الآية بمعنى النعمة:

"لا يجوز أن يكون أراد في هذا الموضع النعمة، لأنه قال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، والنعَم لا تُغَلّ، وقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ معارضةً بمثل ما قالوا، ولا يجوز أن يكون أراد: غُلَّت نعَمُهم.

ثم قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، ولا يجوز أن يريد: نعمتاه مبسوطتان ...

فإن قال لنا: ما اليدان ههنا؟

قلنا: هما اليدان اللتان تعرف الناس، كذلك قال ابن عباس في هذه الآية: (اليدان؛ اليدان) ...

وقال تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، فنحن نقول كما قال الله تعالى وكما قال رسوله، ولا نتجاهل، ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي التشبيه، على أن ننكر ما وصفَ به نفسَه، ولكنا لا نقول كيف اليدان، وإن سئلنا، نقتصر على جملةِ ما قال، ونمسك عما لم يقل ..."، انتهى مختصرًا من "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة" (ص41)، وتمام كلامه شارح لمعنى الآية كسائر أهل السنة والجماعة.

ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيمية، فتابع أهل السنة قبلَه، وشرح كلامهم وبيّنه وقرَّره، فقال رحمه الله:

"لفظ: اليدين بصيغة التثنية؛ لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع؛ كقوله: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ولفظ الجمع في الواحد كقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ، ولفظ الجمع في الاثنين؛ كقوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا، أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد: فلا أصل له. لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها.

ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني رجلين، ولا عندي رجلان، ويعني به الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس، والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد، فقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ: لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نِعَمَ الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية...

ولستَ تجد في كلام العرب ولا العجم، إن شاء الله تعالى، أن فصيحًا يقول: فعلتُ هذا بيديَّ، أو فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعلُه بيديه حقيقةً، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد، والفعل وقَع بغيرها ..."، انتهى مختصرًا من "مجموع الفتاوي" (6/ 366).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android