الميت لا يُطلَبُ منه شيءٌ.
وطلب المساعدة من الميت أو طلب النفع من الميت، أو طلب دفع الضر من الميت، كل ذلك من الشرك الأكبر المخرج من دين الإسلام، وهو من شرك الجاهلية الذي أرسل اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم ليُبطله، وليبيَّن أن الله لا يغفره، وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار.
ولا يوجد شيء في دين الإسلام يبيح أو يجيز طلبَ شيء من الميّت لينتفع به الحيُّ، لا في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في قول الصحابة ولا السلف ولا الأئمة المتبوعين، ولكن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أهل البدع، فيجادلون المؤمنين بالأباطيل والآراء الفاسدة، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
وأما الذي جاء به دين الإسلام فضد ذلك، وهو أنَّ الميِّت هو الذي ينتفع بالحيِّ إذا دعا له، أو تصدق عنه، ونحو ذلك.
والحمد لله الذي أحكم آياته وبيَّنها وفصَّلها، لئلا يكون للناس حجة بعد القرآن، كما قال تعالى في سورة فاطر بعد أن بيَّن أنه الرب الخالق المدبر، وعدَّ بعضَ نعمِه على عبيده، يمتنُّ عليهم بها، قال عز وجل:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
فبيَّن الله تعالى بيانًا شافيًا قاطعًا للعُذر: أنَّه المتفرد بالملك، وأنَّ جميع الذين يُدعَون من دون الله، أي: الذين يَطلُب المشركون منهم النفعَ أو دفعَ الضرِّ؛ لا يملك واحدٌ منهم شيئًا، وجميعُ من يُطلَب منه من دون الله سواء في ذلك، الملائكةُ والأصنامُ والأموات، لا فرق بينهم، ولا فرق بين ميت وميت.
بل؛ بيَّن الله تعالى بيانًا قاطعًا أن جميع هؤلاء لا يسمعون شيئًا مما يطلبه المشركون، وذلك لأن الله يملك إسماع ما شاء من الأصوات، لمن يشاء من العباد، ويحجز ما شاء منها، عمَّن يشاء، فالموتى لا يسمعون شركَ الأحياء، أي: لا يسمعون ما يطلبه الأحياء منهم، من تحصيل المنافع أو دفع المضار.
ثم أخبر الله تعالى أنهم إذا قُدِّر وسمعوا طلب الأحياء النفعَ أو المساعدة منهم، أو دفعَ الضر – ولن يسمعوا -؛ فإنهم لن يستجيبوا لشيء من ذلك، فإنهم لا يملكون شيئًا كما حكمَ اللهُ في أول الآيات.
وزد على ذلك أن هؤلاء المدعوين من دون الله، سوف يكفرون بهذا الشرك يوم القيامة، أي: ينكرونه ويذمُّون أهله، وقد جاء هذا المعنى أيضًا في مواضع متعددة من القرآن الكريم، والحمد لله رب العالمين.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله:
"إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يسمعوكم، لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم.
وَلَوْ سَمِعُوا على وجه الفرض والتقدير مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ، لأنهم لا يملكون شيئًا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولهذا قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبرأون منكم، ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ.
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي: لا أحد ينبئك، أصدق من الله العليم الخبير، فاجزم بأن هذا الأمر، الذي نبأ به كأنه رَأْيُ عين، فلا تشك فيه ولا تمتر"، انتهى من "تفسيره" (ص 686).
ثانيًا:
"الميت لا يُطلَب منه شيء، لا دعاءٌ، ولا غيرُه"، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" (2/ 318).
فهذه كلمة صدق، يجب على كل مسلم أن يعقد عليها قلبه، ويكون على ذُكر منها دائمًا، وكذلك قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "الميت لا يطلب منه شيء، وإنما يُدعَى له، ويترحَّم عليه، إذا كان مسلمًا"، انتهى من "مجموع فتاويه" (6/367).
وحريٌّ بمريد النجاة من النار يوم القيامة، والفوز برحمة الله وعفوه وإكرامه: ألا يتجاوز العبادات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّنها وفصَّلها، فإنه قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)، رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.
وأمور التوحيد أعظم العبادات وأهمها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"كانت طريقة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدون الله وحده بما أمرهم به نبيهم:
فالحلال عندهم ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، يصلُّون الصلوات الخمس كما أمر الله في مواقيتها جماعة في المساجد، ويصومون شهر رمضان، ويحجون البيت العتيق، ويؤدون الزكاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويجاهدون في سبيل الله، ويعبدون الله بسائر ما أمرهم به نبيهم.
ولا يعبدون إلا الله، ولا يدعون غير الله، لا مما في السماء ولا مما في الأرض، لا الملائكة، ولا الكواكب، ولا الأنبياء، ولا تماثيلهم، بل قد علموا أن هذا كله من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
ولا يدعون مخلوقًا، لا ملكًا، ولا جنيًّا، ولا بشرًا، لا نبيًا ولا غير نبي، لا عند قبره، ولا في مغيبه، لا يستعينون إلا بالله، ولا يستنصرون إلا بالله، ولا يتوكلون إلا على الله، ولا يدعون مخلوقًا غائبًا، ولا ميتًا، ولا يستغيثون به، ولا يشكون إليه، ولا يطلبون منه مغفرة، ولا هدى، ولا نصرًا، بل يطلبون هذا كله من الله.
ولا يفعلون كما يفعل النصارى فيستشفعون بالملائكة، أو الموتى من الأنبياء والصالحين، عند قبورهم أو غير قبورهم، ولا يقول أحد منهم: يا جبريل، يا ميكائيل، اشفع لي إلى الله، ولا يقول: يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، اشفع لي إلى الله، كما يفعل النصارى، بل قد علموا أن الغائب لا يُطلب منه شيء، والميت لا يُطلب منه شيء، وأن الملائكة لا يفعلون إلا ما أمرهم به ربهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وكذلك الأنبياء والصالحين، ولكن يُطلَب من أحدهم في حياته الدعاء والشفاعة، كما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكما يَطلُب الخلق منه الشفاعة يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم تسليمًا"، انتهى من "قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق" (ص 31).
ثالثًا:
حديث المعراج المشار إليه في السؤال، هو ما رواه البخاري (349) ومسلم (163)، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(... ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك، حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال: هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لديَّ، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلت: استحييت من ربي).
وليس في الحديث، كما ترى، أيُّ (طلب) طلبه نبيُّنا محمد من موسى صلى الله عليهما وسلم، فلم يطلب منه لا نفعًا ولا ضرًّا، ولا إعانةً، ولا سأله، ولا دعاه، فلا دلالة فيه على (الطلب) من الميت البتة.
وإنما فيه أن موسى أشار على النبي صلى الله عليه وسلم ونصحَه، فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض النصح، وترك بعض النصح، فالاستدلال بهذا على جواز أن (يطلب) الحيُّ من الميت المساعدة، ضلال خالص، ومريد الحق الساعي في النجاة لا يعارض القرآن المحكَم والسنة المتواترة وإجماعَ المسلمين بمثل هذا الذي لم يقل به أحد.
وقد خصَّ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم في المعراج بمخاطبة أرواح الأنبياء، متصوِّرة بصور أجسادهم، كما قال ابن رجب الحنبلي: "والذي رآه في السماء من الأنبياء عليهم السلام: إنما هو أرواحهم، إلا عيسى، فإنه رُفِع بجسده إلى السماء"، انتهى من "فتح الباري" (2/ 113).
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوي" (4/ 328): "رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم"، ثم استثنى من ذلك عيسى عليه السلام أيضًا.
والمقصود: أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في يوم المعراج، فليس لأحد أن يدعي أنه يرى أرواح الموتى ويكلمهم فيسمعونه ويجيبونه، ويخاطبونه، وإلا كان كاذبًا أو مجنونًا.
وقد علمتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من أحد ممن خاطبهم من الأنبياء شيئًا، فلذلك لا تجد في المسلمين من استدل بذلك جواز الشرك بالله بطلب المساعدة من الميت، لا من الصحابة الذين سمعوا هذا الحديث، ولا أحد ممن جاء بعدهم، منذ زمن المعراج إلى اليوم.
جاء في "فتاوي اللجنة الدائمة" (1/ 174):
"الاستعانة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه جائزة، كمن استعان بشخص فطلب منه أن يُقرضه نقودًا، أو استعان به في يده أو جاهه عند سلطان لجلب حق أو دفع ظلم.
والاستعانة بالميت: شرك. وكذلك الاستعانة بالحي الغائب شرك؛ لأنهم لا يقدرون على تحقيق ما طلب منهم؛ لعموم قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، وقوله سبحانه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، وقوله عز وجل: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله المستعان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي، عبد العزيز بن عبد الله بن باز"، انتهى.
والله أعلم.