فكم وددنا أن يحرص كلُّ أبٍ وأمٍّ على ألا يُلجئوا أبناءهم إلى مضيق السؤال عن الحكم الشرعي، والحلال والحرام، في أمور الدنيا، التي هي أهون وأيسر في دين الله من هذا!
فإننا لا نجد شيئًا من أمور الدنيا المسئول عنها يستحق أن يختلف فيه الآباء مع الأبناء، حتى يصل الخلاف إلى السؤال عن (العقوق) الذي هو من كبائر الفواحش!
فإنَّ اختيار تخصص الدراسة، أو اختيار الزوجة، أو الوظيفة، أو مكان السكن؛ هذه الأمور كلها قد وسَّع الله أمرها على العباد إلى حدٍّ يتعذر معه الحصر، ويضيق عنه الوصف، فأي مصلحة تكون للوالدين في التضييق على الأبناء في شيء قد وسَّع الله فيه على العبيد كلهم؟
لسنا ندري لِمَ لا يطلق الوالدان أيدي الأبناء في أمور الدنيا، بسماحة، وطيب خاطر، ليأخذ كل امرئ من المباح ما يناسبه ويلائمه، بلا عنت ولا نزق، ما لم يكن في اختيار الأولاد منكرٌ واضح، أو ضرر ظاهر؟!
أيها الأب، وأيتها الأم: إنما ابتُنيت الدنيا كلها، والمباحات التي خلقها الله لعباده، على السعة، والكثرة، وهي مع كثرتها: متنوعة مختلفة، أشد تنوعًا واختلافًا من تنوع أنفس الخلق واختلافهم، وأغراضهم، ومحابهم، وشهواتهم، وغايتهم.
إن من عقل الوالدين وحسن تدبيرهم: أن يكونوا على ذكر دائم بالاختلاف بينهم وبين أبنائهم، في الأغراض والمحابِّ وما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وإنما وسَّع الله تعالى على عباده أنواع الرزق الحلال، والعمل الحلال، والتصرفات الحلال؛ كما خلق تعالى الطعام مختلفا أكله، صنوانا وغير صنوان، وهو يعلم تعالى مَن خلق، وهو اللطيف الخبير.
فلْيتخيرْ كلُّ عبدٍ من الحلال ما تنصلح به دنياه، وتقوم به حياته، وتميل إليه نفسه، ويلائم طبعه، فبذلك – فقط – يأخذ نصيبه من الدنيا، وهو إن فعلَ؛ استغنى بالحلال عن الحرام، فاستعان بذلك على أن يفرغ قلبَه لذكر الله وعبادته.
وإن لم يفعل، حمقًا منه، أو قهرًا لنفسه على ما ليس في طبعها؛ بقيَ إلى ما شاء الله مشغول القلب بما لم ينله من حظ الدنيا.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يُر للمتحابين مثل النكاح، أخرجه ابن ماجه (1847) وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
وقد ضعفه بعض أهل العلم، فأشار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى ضعفه، ثم قال:
"لكنه من الناحية الطبيعية؛ أنه إذا قُدِّر أن يكون بين الرجل وبين امرأة من الناس محبة؛ فإن أكبر ما يدفع الفتنة والفاحشة أن يتزوجها؛ لأنه سوف يبقى قلبه معلقًا بها إن لم يتزوجها، وكذلك هي، فربما تحصل فتنة"، انتهى من "لقاء الباب المفتوح".
فمن رجحان عقل الوالدين، إذا وجدا الحرص من الولد على شيء من الدنيا، حتى يكاد يفتن به= أن يأذنا له فيه، ما لم يكن إثما.
كذلك يقال للأبناء: إن أَمْر هذه الحاجات الدنيوية أهون من نصب راية الخلاف مع الوالدين بسببها، فالأمور المسئول عنها؛ كلها من سعي الدنيا، وفيها من السعة والكثرة والتنوع ما يمكِّنُ الأبناءَ من الجمع بين ما يلائمهم، ولا يعارض رضا الوالدين، فإن رضاهما مؤذن بالبركة والخير في الدنيا والآخرة.
ثانيًا:
وأما السؤال: هل يحق للوالدين التدخل في شئون أولادهم الدنيوية؟
فمتى خرجَ الوالدان؛ حتى احجتنا إلى السؤال عن هذا الدخول؟
الحق أن الوالدين لم يخرجا -أصلًا- من رعاية هذه الشئون الدنيوية قطُّ، حتى نتساءل إن كان يحق لهم التدخل أم لا، فدخولهما، في شأن الولد كله: قائم دائم، مستقر مستمر!! فمنذ ولادة الابن، وهما منشغلان برعايته، وإصلاح دنياه، والقيام عليها.
وذلك بأن الله تعالى قد طبعهما على الشفقة عليه، والحرص على طلب الخير، كل الخير، له، حتى حُذِّر الآباء من طغيان هذه الرعاية على دين الآباء، كما قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
قال السعدي في "تفسيره" (ص865): "ينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدِّمُها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة"، انتهى.
فحذارِ أيها السائل الكريم من جحد فضل الوالدين، الذي صار سمة ظاهرة في هذا العصر، وإياك وغلقَ باب الجنة بيديك، بسبب لَعَاعة من الدنيا، فإنَّ كلَّ واحد من الوالدين هو خير أبواب الجنة لك، وأجودها، وللابن مصالح عظيمة في الدنيا والآخرة، في رضا والديه، ينبغي أن يحرص عليها، ولا يفرط فيها، كما بيَّناه في (ثانيًا) من جواب السؤال: (551904)، فليراجع.
وما كان مِن إباءٍ أو رفضٍ؛ فليكن مع التماس الرضا منهما، ودعاء الله أن يأذنا لك بما تريد من المباح.
ثالثًا:
أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين، ووصى الإنسان بوالديه أن يشكر لهما.
كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثم قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور. رواه البخاري (5976)، ومسلم (87)، وفي ذلك أحاديث كثيرة.
لكن:
ليست كلُّ مخالفة لأمر الوالدين حرامًا، فضلا عن أن تُعدَّ من العقوق الذي هو من كبائر الذنوب، فأما العقوق الذي هو كبيرة من الكبائر فيضبط بأنه: ما كان فيه إيذاء غير هيِّن لأحدهما، أو كان فيه إساءة تنال أحدهما، ولم يكن واجبًا على الولد أن يفعله.
قال الإمام ابن الصلاح رحمه الله: "العقوق المحرَّم: كلُّ فعلٍ يتأذى به الوالد أو نحوه، تأذيًا ليس بالهيِّن، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة"، انتهى من "فتاويه" (1/ 201).
ومراده بالأفعال الواجبة، ما يجب على الابن أن يفعله، فإنه لا اعتبار بأذى الوالدين حينئذ، إذ لا طاعة إلا في معصية الله تعالى.
ونحوه قول ابن حجر الهيتمي:
"ضابط العقوق الذي هو كبيرة: أن يحصل منه لهما، أو لأحدهما: إيذاء ليس بالهيِّن عُرفًا"، انتهى من "الزواجر" (2/ 115)، بتصرف يسير.
ثم أكَّد الهيتميُّ، فشرحَ أن مخالفة الابن لأمرِ الوالدين، إذا لم يكن فيها أذى يَنال الوالدين؛ فليس عقوقًا.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، بعد أن عدَّ العقوق في أسباب دخول النار:
"وعقوقهما: أن يَقطع ما يجب لهما من برٍّ وصلةٍ، أو يسيءَ إليهما بالقول أو الفعل"، انتهى من "مجموع فتاويه" (20/ 384).
ولا شكَّ أن قطع الصلة الواجبة لهما، أو البر الواجب، فيه إيذاء لهما ليس بالهيِّن، فهو نحو ما سبق عن العلماء.
فبذلك يظهر أن العقوق هو إيذاء يصل إلى أحدهما، أو ضرر يقع عليهما.
فإذا كانت مخالفة أمر الوالدين في الأمور الدنيوية، المسئول عنها: لا تتضمَّن قطع صلةٍ واجبةٍ لهما، ولا منع برٍّ مما أوجبه الله لهما، ولا يترتب عليها أذى لأحدهما، ولا يقع على أحدهما ضررٌ بسبب مخالفة الابن لهما= فإن مخالفة الابن لهما لا تعدُّ حينئذٍ عقوقًا.
وقد تكلم العلماء في حكم الشرع في امتثال الابن لأمر الوالدين إذا أمرا بشيءٍ، أو نهيا عن شيء مما أباحه الله، هل يصير واجبًا عليه بسبب أمرهما ونهيهما، أم لا؟
كما بحثَ ابنُ مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 398) ط ركائز، ونقل فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تعليقا على كلامٍ لبعض الحنابلة، قال:
"وقال الشيخ تقي الدين [يعني ابن تيمية]: مقتضى قوله؛ أن يُبرَّا في جميع المباحات، فما أمراه ائتمر، وما نهياه انتهى؛ وهذا فيما كان منفعةً لهما، ولا ضررَ عليه فيه ظاهر، مثل ترك السفر، وترك المبيت عنهما، ناحيةً.
والذي ينتفعان به، ولا يستضر هو بطاعتهما فيه؛ قسمان:
قسم يضرُّهما تركه؛ فهذا لا يُستراب في وجوب طاعتهما فيه، بل عندنا هذا يجب للجار.
وقسم ينتفعان به، ولا يضرهما [لا يضرهما تركه] أيضا: تجب طاعتهما فيه، على مقتضى كلامه.
فأما ما كان يضُره طاعتهما فيه؛ لم تجب طاعتهما فيه.
لكن إن شق عليه، ولم يضره؛ وجبَ"، انتهى.
وحاصل ذلك:
1- أنَّهما إذا أمرا بشيء ينتفعان بحصوله، أو يتضرران بعدم حصوله، ولا ضرر على الابن فيه؛ فإنه يجب عليه أن يمتثل لهما.
2- كذلك إذا أمرا بشيءٍ ينتفعان به، أو يتضرران بتركه، وفيه مشقة على الابن، من غير ضرر عليه؛ فإنه يجب عليه أيضًا أن يمتثل لهما فيه.
3- فأما الأشياء التي يقع على الابن ضرر بسبب طاعتهما فيه؛ فلا يجب عليه أن يطيعهما فيه.
4- وبقي قسم رابع، وهو: ما يأمر به الوالدان، ولا ينتفعان به، ولا يتضرران بتركه، إنما يأمران به أمر إرشادٍ له لما يصلحه هو، وينتفع به هو في دنياه، ولا يكون مما يتضرر الابن بفِعله.
وهذا القسم قد أوجبه بعض العلماء، والأظهر – والله أعلم - أنه غير واجب على الابن، ولا تعدُّ مخالفته لهما فيه عقوقًا.
قال سراج الدين البُلقيني، من أئمة الشافعية، في مخالفة الابن لأمر الوالدِ:
"وأما مخالفة أمره أو نهيه، فيما لا يَدخل على الوالد فيه ضررٌ بالكلية، وإنما هو مجرد إرشاد للولد؛ فإذا فعل ما يخالف ذلك لم يكن عقوقًا، وموافقة الوالد أولى"، انتهى من "فتاويه" (5/ 298).
رابعًا:
يتبيَّن مما سبق: أن الأمور الواردة في السؤال، وهكذا سائرُ الأمور الدنيوية، التي هي من المباحات:
إن أمرَ بها أحد الوالدين، وكانت مما لا يعود على الوالد نفعٌ من فعلها، ولا يضره تركها؛ فإنه لا يجب على الابن الامتثال، وإذا لم يمتثل؛ لم يكن ذلك عقوقًا ولا حرامًا.
وقد أكثر العلماء هنا من التنبيه في كل مناسبة على أن موافقة الوالد أولَى.
أما إذا كان فيها منفعة للوالد، أو كان في تركها ضرر عليه، وليس فيها ضرر على الابن، فحينئذ يجب عليه الامتثال، كأن يكون الوالدان في حاجة إلى قيام الابن على أمرهما وخدمتهما، فيمنعانه من السكن البعيد عنهما، أو يكون الولد قد اختار زوجة تنصب العداء لأحدهما وتضره وتسيء إليه، أو نحو ذلك.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:
"عن رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة، وتشير عليه بطلاقها، هل يجوز له طلاقها؟
فأجاب:
لا يحلُّ له أن يطلِّقها لقول أمه؛ بل عليه أن يبرَّ أمَّه، وليس تطليق امرأته من برها، والله أعلم"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (33/ 112).
فلم يعتبر بمجرد كراهية الأم للزوجة، وشدد في شأن التطليق لهذا السبب، فجعله (حراما) بقوله" (لا يحل).
وورد في "فتاوي اللجنة الدائمة" (25/ 139):
"ولدٌ سجَّل في إحدى المعاهد ليدرس، ولكن والده غير راض بذلك، ويريد من ولده أن يشتغل بالتجارة ولا يدرس، فهل يحق للولد أن يعصي والده ويدرس أم يطيعه ويترك الدراسة؟
[الجواب]:
ينبغي للابن أن يجمع بين الحسنيين، فيطلب العلم، ويساعد والده على تجارته.
وإذا أصرَّ والده على إلزام ابنه بترك طلب العلم والاشتغال بالتجارة؛ فإنه لا يطيعه في ذلك، وليس هذا من العقوق"، انتهى، ووقَّع عليها الشيخان: عبد الله بن غديان، وعبد العزيز بن باز.
وورد فيها أيضا (25/ 164):
"رجل عنده بنات، ويرغب إدخالهن المدرسة، إلا أن والده لا يرضى بذلك، ويمنعه من دخولهن، فهل يأثم لو أدخلهن المدرسة، وهل هذا عقوق لوالده؟
[الجواب]:
إذا أدخلهن لتعلُّم العلم النافع فلا يأثم، وليس هذا من العقوق"، ووقَّع عليها المشايخ: عبد الله بن قعود، وعبد الله بن غديان، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد العزيز بن باز.
والحاصل:
أن طاعة الوالدين في الأمور الدنيوية المذكورة في السؤال وغيرها؛ ليست واجبة، وعدم الامتثال ليس عقوقا، بشرط ألا يكون فيها منفعة للوالدين مما يجب لهما من البر أو الصلة، ولا يكون فيها ضرر أو أذى يجب حجزه عنهما.
مع التأكيد على الابن أن موافقة الوالدين أولى، إذا لم يقع عليه ضرر ظاهر، وتأكيد النصح له أن يجتهد في إرضاء والديه وإن خالفهما، وليتأنَّ قبل المخالفة، فلعل في رأي الوالدين حكمةً هو فاقد لها، وخبرة بالدنيا وأحوالها وما يصلح له منها، فإنَّ الأصل أنهما رفيقان به، مشفقان عليه، مريدان لصلاحه وصلاح دنياه، كما سبق التنبيه عليه.
والله أعلم.