هل تسمع الجمادات كما يسمع البشر؟

السؤال: 547394

هناك حديث للرسول (لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة )، و قال الله عز و جل في سورة مريم: ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، فأنا لم أفهم كيف لا يسمع الجماد ويسمع صوت المؤذن الحجر، والموضوع يسبب لي الكثير من الوسواس، وينغص علي تفكيري كثيرا، وأجد صعوبة في الفهم، وليس قصدي إيجاد ثغرات، و إنكار أي شيء من النقل.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولًا:

يستعمل (السمع) في لغة العرب، وفي القرآن والسنة كذلك، ويراد به عدة معان، منها:

1-السمع بمعنى حاسة السمع، التي هي (الأذن)، نحو: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ.

2-والسمع -كَالسَّمَاعِ- بمعنى: قوة إدراك الأصوات. نحو: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).

3-والسمع بمعنى (الفهم)، لا مجرد إدراك صوت الكلمات، كما قال اليهود: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، أي: فهِمنا المراد، ولن نفعله.

قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.

قال الطبري: " وأما قوله: (واسمعوا) ، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر: سمعت وأطعت"، يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك. كما قال الراجز:

السَّمْعُ والطَّاعَةُ والتَّسلِيمْ * خَيْرٌ وأعْفى لبَنِى تَمِيمْ

يعني بقوله: "السمع"، قَبول ما يُسمع، و"الطاعة" لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: (واسمعوا): اقبلوا ما سمعتم واعملوا به". انتهى، من "تفسير الطبري" (2/ 357).

4-ويطلق السمع أيضا، ويراد به: (الاعتبار والانتفاع بالمسموع)، وهذا معنى ثالث، بعد السمع بمعنى إدراك الأصوات، ثم السمع بمعنى فهم الكلام، ومنه قوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، فقولهم سَمِعْنَا، أي: فهمنا، وقول الله تعالى عنهم: وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، أي: لا يعتبرون، ولا ينتفعون بما سمعوه وفهموه.

قال الطبري رحمه الله في "تفسيره" (11/ 98): "لا تكونوا، أيها المؤمنون، في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قَالُوا: قد سَمِعْنَا بآذاننا، وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ؛ يقول: وهم لا يَعتبرون ما يسمعون بآذانهم، ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه، وتَرْكهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه، فجعلهم الله، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بأذانهم: بمنزلة من لم يسمعها"، انتهى.

وأنت تعبر بالسمع عن (الطاعة والامتثال) للأمر والنهي، كقولك لغيرك: لمْ تسمع نصيحتي، أي: لم تُطعْني.

5-ويستعمل السمع بمعنى (الاستجابة)، أي: إجابة طلب الطالب أو استجابة دعاء الداعي.

قال ابن القيم في معنى قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: "والسمع هنا المراد به سمع الإجابة، لا السمع العام، فهو مثل قوله: سمع الله لمن حمده، وقول الخليل: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ"، انتهى من "بدائع الفوائد" (2/ 764).

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ: "إنه ليستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألتُه من الولد"، انتهى من "تفسيره" (4/ 514)، ونحوه قال القرطبي في "تفسيره" (4/ 72).

وينظر: "المفردات" للراغب الأصفهاني (425)، "بصائر ذوي التمييز" (3/ 257)، للفيروزآبادي.

والمقصود: أن كل هذه المعاني صحيحة مستخدمة في القرآن والسنة، وكذلك يستخدمها الناس في تخاطبهم فيما بينهم، والسياق يوضح المراد غالبا.

ثانيًا:

جاءت نصوص الكتاب والسنة بإثبات أنواعٍ من الإدراك والحِسّ للحجارة والجبال، فأثبت للحجارة أنها (تخشى الله)، والجبال كذلك تخشع من خشية الله، وتأبى الجبال أن تحمل الأمانة، وجبل أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في مكة حجر يسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته رسولًا.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير جملة صالحة من النصوص الدالة على ذلك عند تفسير قول الله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، قال رحمه الله:

"... ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: (كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمِن خشية الله، نزل بذلك القرآن)...

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة، كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا؛ فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة، كما في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الآية، وقال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ و أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ الآية، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ الآية، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الآية.

وفي الصحيح: (هذا جبلٌ يحبُّنا ونحبُّه)، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلِّم عليَّ قبل أن أبعَث، إني لأعرفه الآن) ..."، انتهى مختصرًا من "تفسير ابن كثير" (1/ 304).

ومما جاء أيضًا: سماع الحجارة لأذان المؤذنين؛ كما هو موضع السؤال.

غير أن هاهنا أمرًا مُهِمًّا ينبغي الانتباهُ إليه، وهو أن هذه الإدراكات التي نسبت إلى الجمادات، من السجود، والخوف، والخشوف، والسماع، ونحو ذلك: لا يلزم من نسبتها إلى الجمادات، أن تكون على شاكلة ما يُنسب إلى الإنسان منها، ولا أن تكون مماثلة لها من كل وجه؛ فليس في لغة العرب، ولا في نصوص الشرع، ولا في دلالة العقل: ما يقتضي ذلك، أو يوجبه؛ بل السجود، والخشوع، والسماع، ... = من كل شيء بحسبه.

فسجود الإنسان، ليس هو كسجود غيره من الحيوان، وليس هو كسجود الجمادات.

وهكذا السماع، والخشوع، والخشية، ونحو ذلك الباب كله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:

"والسجود من جنس القنوت؛ فإن السجود الشامل لجميع المخلوقات: هو المتضمن لغاية الخضوع والذل، وكل مخلوق فقد تواضع لعظمته، وذل لعزته، واستسلم لقدرته.

‌ولا ‌يجب ‌أن ‌يكون ‌سجود كل شيء مثل سجود الإنسان: على سبعة أعضاء ووضع جبهة في رأس مدور على التراب، فإن هذا سجود مخصوص من الإنسان. ومن الأمم من يركع ولا يسجد وذلك سجودها، كما قال تعالى: (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) [سورة البقرة 58]. وإنما قيل: ادخلوه ركعا. ومنهم من يسجد على جنب، كاليهود.

فالسجود اسم جنس، ولكن لما شاع سجود الآدميين المسلمين، صار كثير من الناس يظن أن هذا هو سجود كل أحد، كما في لفظ القنوت.

وكذلك لفظ الصلاة: لما كان المسلمون يصلون الصلاة المعروفة، صار يظن من يظن أن كل من صلى فهكذا يصلي، حتى صار بعض أهل الكتاب ينفرون من قولنا: إن الله يصلي، وينزهونه عن ذلك، فإنهم لم يعرفوا من لفظ الصلاة إلا دعاء المصلي لغيره، وخضوعه له. ولا ريب أن الله منزه عن ذلك. لكن ليست هذه صلاته سبحانه.

وقد قال الله تعالى: ( ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) [سورة النور 41].

وهو سبحانه قد ذكر سجود الظل في غير موضع، كقوله: ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ) [سورة النحل 48]. وقال تعالى: ( ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [سورة الرعد 15].

ومعلوم أن الظل إذا سجد، لم يسجد على سبعة أعضاء يضع رأسه ويديه ثم يرفع رأسه ويديه؛ بل سجوده: ذله وخضوعه». انتهى، من "جامع الرسائل لابن تيمية"- رشاد سالم (1/ 27-28).

ثالثًا:

إذا تبينا التنبيه السابق، فالقول في سماع الجمادات، هو من هذا الباب نفسه؛ لا يلزم إذا دلت النصوص على سماع الحجارة أو الجمادات، لسماع المؤذن، أو سماعها لشيء سوى، في بعض الأوقات، أو حتى مطلقا، بتقدير ورود ذلك= لا يلزم من ذلك أن تكون كهيئة السامع من بني آدم، أو حتى من سائر الحيوان، ولا يلزم من إثبات سماعها في الجملة، أو سماعها لشيءٍ بعينه، أن تسمع كل صوت، فضلا عن أن تدركه، فضلا أن تستجيب له؛ فليس في النصوص شيء مما يستلزم ذلك.

وعلى ذلك يقال: إن قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا، فيه عدم سماع الحجارة دعاءَ المشركين، وطلبهم الحوائج، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله.

وهذا هو شأنها، والأصل فيها، والمشهود من طبائع هذه الجمادات: أنها لا تسمع؛ بمعنى: أنها لا تدرك الأصوات، فليس ذلك في طبعها، ولا هو من قوة نفسها. وما جاء على أصله؛ فإنه لا يُسأل عن علته؛ لأن ذلك: طبيعته، وحقيقته، وإنيته.

وإنما موضع السؤال، والتثبت، والطلب: هو ما خرج عن ذلك الأصل؛ فأثبت للجماد سماعاً ما، أو خشوعًا ما، أو إدراكًا ما.

وفي هذا الباب: تظهر معجزة للنبي، وكرامة للولي، وآية وشاهد واعتبار يضعه الله لأولي الألباب من عباده.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن صوت المؤذن: (لا يسمعه جن، ولا إنس، ولا شجر، ولا حجر، إلا شهد له)، فيه أن الحجارة تسمع صوت المؤذن، وهو حديث أخرجه ابن ماجه (723)، وصححه الشيخ الألباني.

وهذه موضع الآية، والعبرة، والعظة، والشهادة؛ فليس في طبع هذه الجمادات أن "تسمع"؛ فتدرك. ولا من شأنها أن تقول، وتشهد. لكن رب العالمين، خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر كله: يخرجها عن طبعها، وصفتها، إذا شاء؛ فيسمعها أذان المؤذن؛ لتشهد له يوم القيامة بما سمعت؛ كرامة لأهل هذه الطاعة العظيمة، وتنويها بشأنهم، ورفيع منزلتهم بين الخلائق يوم القيامة.

وليس سماع الحجارة للأذان، ولا شهادتها به يوم القيامة، بأعجب من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من جريان الحجر بثوب موسى عليه السلام، ولا من خروج البحر عن طبعها، بإغراق من يمشي عليه، حتى جمد لموسى ومن معه، ومشوا فوق سطح الماء ... وهذا باب معلوم لأولي الألباب من المؤمنين.

وعلى ذلك؛ فالمعنى من عدم سماع هذه الأصنام لعابديها: أن ذلك هو طبعها، وشأنها، ولا يلزم ألا تخرج عن ذلك الطبع، فتسمعَ، بإسماع الله لها.

غير أن المعنى الأهم من تقرير عدم سماعها، أنها وإن سمعت صوتا، فهي لا تفهمه.

وإن فهمت، فلن تجيب الداعي لها؛ لأن ذلك ليس في قوتها، ولا هو من طبيعتها، فهي عاجزة بطبعها، موات؛ لا تملك شيئا.

وقد دل على ذلك قول الله تعالى: وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ 13 إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ [فاطر: 13-14].

قال الإمام الطبري: " يقولُ تعالى ذكرُه: إن تَدْعوا أيُّها الناسُ هؤلاء الآلهةَ التي تعبُدونها مِن دونِ اللهِ، لا يسمَعوا دعاءَكم؛ لأنها جمادٌ لا تفهَمُ عنكم ما تقولون، ‌وَلَوْ ‌سَمِعُوا ‌مَا ‌اسْتَجَابُوا ‌لَكُمْ. يقولُ: ولو سمِعوا دعاءَكم إيَّاهم، وفهِموا عنكم أيضًا قولَكم، بأن جعَل لهم سمعًا يسمَعون به، ما استَجابوا لكم؛ لأنها ليست ناطقةً، وليس كلُّ سامعٍ قولًا مُتَيَسِّرًا له الجوابُ عنه. يقولُ تعالى ذكرُه للمشركين به الآلهةَ والأوثانَ: فكيف تعبُدون مِن [دونى ما كانت] هذه صفته، وهو لا نفعَ لكم عندَه، ولا قُدْرةَ له على ضَرِّكم، وتَدعون عبادةَ الذي بيدِه نفعُكم وضَرُّكم، وهو الذي خلَقكم وأنعَم عليكم؟!". انتهى، من "تفسير الطبري" (19/350).

وقال الشيخ السعدي رحمه الله:

"إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يسمعوكم لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم، وَلَوْ سَمِعُوا على وجه الفرض والتقدير مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ لأنهم لا يملكون شيئًا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده"، انتهى من "تفسيره" (ص 686).

والحاصل: من نفي سماع الأصنام: أنها إذا قدر أنها أدركت أصوات المشركين؛ فهي لا تفهم معناه، ولا تفقهه، وإذا قدر أنها فهمت، وأدركت؛ فليس في قدرتها، ولا في طبعها: أن تجيب الداعي إذا دعاها. ولهذا قامت حجة إبراهيم عليه السلام، على أبيه وقومه: يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا [مريم: 42].

رابعا:

هذا الكلام المذكور في سماع الجمادات، هو من نحو ما جاء في سماع الأموات.

قال الله تعالى: وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ [فاطر: 22].

ومع ذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الميت يسمع قرع نعال مشيعيه. وأنه وقف على قتلى بدر من المشركين، وناداهم بأسمائهم، وقال لأصحابه لما استشكلوا ذلك: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).

وهذا السماع المثبت، لا يلزم منه أن يكونوا يسمعون كل شيء، ولا أنهم يسمعون في كل حال؛ فضلا عن أن يكون سماعا نافعا لهم، أو لغيرهم، فيجيبوا داعيا، أو شاكيا، أو مناجيا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:

«فإن قوله: إنك لا تسمع الموتى إنما أراد به: السماع المعتاد، الذي ينفع صاحبه. فإن هذا مثَلٌ ضرب للكفار.

والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبولٍ، بفقه واتباع، كما قال تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء .

فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل: لا يجب أن يُنفى عنهم جميعُ أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار؛ بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به.

وأما سماعٌ آخرُ: فلا يُنفَى عنهم». انتهى، بتصرف يسير، من "مجموع الفتاوى" (4/ 298).

وانظر أيضا: "مجموع الفتاوي" (24/ 363).

والذي نقول هنا: إن هذا غير بعيد في الحجارة، أن تكون مما يسمع في الجملة، ولا يلزم أن تكون مما يسمع دائمًا، بل يُسمِعها الله أصوات المؤذنين، وما شاء من صوت، ويردها إلى ما خلقت عليه؛ فلا تسمع، ولا تبصر شيئًا.

وليس إذا سمعت صوت المؤذن، لزم أن تسمع صوت المصلي، أو تالي القرآن؛ فضلا عن أن تسمع أصوات الكفر والفجور والعصيان؛ فليس ذلك من طبعها، ولا من شأنها، بل هي موات، على أصلها.

وليس يلزم إذا سبح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسبح في كف سواه.

وليس يلزم قياس أي شيء من ذلك الباب، على شيء آخر؛ فذلك الباب: لا قياس فيه، البتة!! فلنفهم ذلك.

خامسا:

قال الله تعالى أيضًا:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ.

وفي هذه الآيات إقرار المشركين بالحجة عليهم، أن الأصنام لا تسمعهم، لذا قالوا: بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، قال ابن كثير في "تفسيره" (6/ 146): "اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون"، انتهى.

والمراد هنا: أنه قد جاء في المنقول عن السلف في تفسير قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ:

ما جاء عن قتادة بن دعامة رحمه الله، قال: "هل تجيبكم آلهتُكم إذا دعوتُموهم"، وهذا يعني أنه فسر عدم السماع بعدم الإجابة.

وما جاء عن عكرمة مولى ابن عباس رحمه الله، قال: "هل يسمعون أصواتَكم؟"، وهذا يعني أنه فسر عدم السماع بعدم إدراك الأصوات.

وقد علمتَ وجهَ كلٍّ منهما إن شاء الله.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android