388

هل يدرك فضل البكاء من خشية الله تعالى مع وقوعه في الكبائر؟

السؤال: 544171

من بكى من خشية الله تعالى وخوفاً من عذابه ثم عاد للإصرار على إتيان بعض الكبائر وترك الفروض أحياناً تكاسلاً، هل يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) رواه الترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم (عينان لا تمسهما النار)، وذكر منها (عين بكت من خشية الله) رواه الترمذي؟

ملخص الجواب

البكاء من خشية الله تعالى فضله عظيم فهو ينقذ صاحبه من النار. لكن يخشى على من انهمك في الكبائر بعد هذا البكاء أن يبطل عمله هذا ويفوته هذا الفضل، لرجوعه عن الخشية والخوف.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

البكاء من خشية الله تعالى، قد ورد في فضله؛ أن صاحبه يوقى عذاب النار.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: " قد تكاثرت النصوص في أن البكاء من خشية الله يقتضي النجاة منها، والبكاء خوف نار جهنم هو البكاء من خشية الله، لأنه بكاء من خشية عقاب الله وسخطه والبعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته " انتهى، من "التخويف من النار " (ص55).

ومن هذه النصوص:

ما رواه الإمام أحمد في "المسند" (16 / 330)، والنسائي (3108)، والترمذي (1633)، (2311)، وغيرهم: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا ‌يَلِجُ ‌النَّارَ ‌رَجُلٌ ‌بَكَى ‌مِنْ ‌خَشْيَةِ ‌اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ.

وقد اختلف في رفعه ووقفه، وعلى القول بوقفه فله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي والاجتهاد.

وقال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".

وروى الترمذي (1639): عَنْ شُعَيْب بْن رُزَيْقٍ أَبي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ ‌مِنْ ‌خَشْيَةِ ‌اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ.

ثم قال الترمذي: " وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ رُزَيْقٍ ".

وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ.

فيه تأكيد على عدم دخول الباكي من خشية الله تعالى في النار أبدا.

قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي رحمه الله تعالى: " ( حَتَّى يُرَدَّ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ) ببناء الفعل للمفعول، وهذا من التعليق بالمحال عادة، إذ عودة اللبن في الضرع بعد احتلابه مستحيل عادة، وفائدة تعليقه به التاكيد في عدم دخول الباكي من خشية النار أبدا، وهو كقوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ . والظاهر من هذا أن اللَّه تعالى لا يوفق عبدا للبكاء من خشيته إلا إذا أراد له النجاة من النار أبدا " انتهى، من "ذخيرة العقبى" (26 / 137).

فيرجى للباكي من خشية الله تعالى هذا الفضل العظيم.

لكن إن أعرض بعد ذلك هذا الشخص عن الخشية وانهمك في المعاصي بفعل المحرمات وترك الواجبات، فيخشى عليه أن يفوته هذا الفضل؛ وأن يكون قد رجع عن عمل عمله لله تعالى فأبطله، فيخاف عليه أن يتناوله عموم قوله تعالى:

 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ   محمد (33).

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: " خرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" من رواية أبي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الإخلاص ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ صالح، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم ، فخافوا الكبائر بعد، أن تحبط الأعمال).

وبإسناده، عن الحسن في قوله: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم قال: بالمعاصي.

وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم قال الكبائر.

وبإسناده، عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله؛ فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال: خواتيمه " انتهى. "فتح الباري" (1/199).

فالسيئات قد تبطل بعض ما سبقها من حسنات وهذا الذي يقول به جمع من السلف، وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه بابا قال فيه: " بابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ ‌أَنْ ‌يَحْبَطَ ‌عَمَلُهُ ‌وهو ‌لا ‌يَشْعُرُ ... " انتهى.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ

ومما يدل على هذا – أيضا – قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى الآية، وقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب الآية. وفي صحيح البخاري: ( أن عمر سأل الناس عنها فقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ. فقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ ‌مَثَلًا ‌لِعَمَلٍ. قالَ عُمَرُ: لِأَيّ عَمَلٍ؟ قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ. قالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يبعث اللَّهُ إليه الشَّيْطَانَ، فيعمل بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ )…

وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها...

والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها...

وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة، فقد أبطل فيما قال، ولم يقف على أقوال السلف الصالح في ذلك.

نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار. وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك " انتهى، من "فتح الباري" (1/ 197 – 200).

والخلاصة:

البكاء من خشية الله تعالى فضله عظيم فهو ينقذ صاحبه من النار. لكن يخشى على من انهمك في الكبائر بعد هذا البكاء أن يبطل عمله هذا ويفوته هذا الفضل، لرجوعه عن الخشية والخوف.

والرجوع عن العمل الصالح خطر عظيم، لذا كان مما يتعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم: ( الْحَوْرِ ‌بَعْدَ ‌الْكَوْرِ ).

روى الإمام مسلم (1343): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ ‌بَعْدَ ‌الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ ".

رواه الترمذي أيضا (3439)، ثم قال رحمه الله تعالى عقبه: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَيُرْوَى الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ أَيْضًا، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ أَوِ الْكَوْرِ، وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ، وَيُقَالُ: إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، إِنَّمَا يَعْنِي الرُّجُوعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ " انتهى.

وهذا كله بتقدير: أن يصح له أولا مقام البكاء من خشية الله، ثم ينزل عن ذلك بما فعل من الموبقات. وإلا؛ فقد يكون هذا المفرط المصر على ذنبه: مستدرجاً، قد خدعه الشيطان بهذا البكاء، ليهون عليه ما هو مقيم عليه من المعاصي. فليحذر الناصح لنفسه، الخائف عليها، وليتب إلى رب العالمين مما هو واقع فيه، وليعزم على تصحيح نيته وعزمه على ألا يعود إلى ما يغضب رب العالمين عليه.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android