قد ورد ما يدل على تحريم المعازف، كمثل ما في حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بْن غَنْمٍ الأَشْعَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيّ، وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) رواه البخاري (5590 ).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مسند؛ فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري. وقد قيل: إنّ البخاري إذا قال في "صحيحه": قال فلان ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه، فإنه يكون قد أخذه عنه عرضًا أو مناولة أو مذاكرة. وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندا، والله أعلم.
وخرجه البيهقي من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار، فذكره. فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار " انتهى. "نزهة الأسماع في مسألة السماع – ضمن مجموع رسائل ابن رجب" (2 / 449).
فالحديث وإن لم ينص على لفظ حرّم، فقد أشار إليه.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن ذكر الشيء بالتّحريم والتّحليل: مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة، فإن دلالة هذه النّصوص قد تكون بطريق النّصّ والتّصريح، وقد تكون بطريق العموم والشّمول، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (2/164).
فقد نبه هذا النص إلى تحريم هذه المعازف، وذلك بالإخبار عن هؤلاء القوم بأنه يستحلون هذه الأمور، والاستحلال لا يكون إلا لما ثبت تحريمه، وكذا بعطف المعازف على ما هو محرم بنص القرآن الكريم وهو الخمر والزنا. ثم ذكر في آخره: ما ينزل بهؤلاء المستحلين من العقاب والعذاب.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلّها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالا لما ذَمّهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحِر " انتهى. "إغاثة اللهفان" (1/458).
نعم، لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتلف المعازف، لكن لم يشترط أحد من أهل العلم، أنه يجب لثبوت تحريم شيء، أن يثبت انكار النبي صلى الله عليه وسلم له بيده بكسر أو إتلاف.
ثم لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر مجلسا للمسلمين فيها معازف، وتركها من غير إتلاف، إلا ما ورد في قصة الجاريتين وضربهما بالدف وهو من المعازف.
روى البخاري (987) ومسلم (892): عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها: " أَنَّ أَبا بَكْرٍ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَيْها وَعِنْدَها جارِيَتانِ، فِي أَيَّامِ مِنًى، تُدَفِّفانِ وَتَضْرِبانِ، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فانْتَهَرَهُما أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن وَجْهِهِ، فَقالَ: (دَعْهُما يا أَبا بَكْرٍ، فَإِنَّها أَيَّامُ عِيدٍ).
وحديث الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: " جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا، يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ:
وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
فَقَالَ: (دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ).
وبوّب عليه البخاري بقوله: " بابُ ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ " انتهى.
وهذا لا يفهم منه مشروعية سائر المعازف، بل غاية ما يفهم منه أنه استثنى الدف من النهي، وأن له حالات يباح فيها للجواري، وهي أيام الأفراح كالعيد والعرس؛ وهو كذلك، فلا منكر في هذه الأحاديث، بل فيها دلالة على الرخصة فيما جاء فيها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة: غيره من الآلات كالعود ونحوه، كما سنذكر ذلك في وليمة العرس إن شاء الله تعالى " انتهى. "فتح الباري" (2 / 443).
ولهذا السبب وهو أن الدف له حالات يباح فيها، لم يشرع إتلافه، بخلاف سائر المعازف فإنها محرمة في جميع الحالات، فلذا ذهب جماهير أهل العلم إلى مشروعية إتلافها.
قال أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى:
" أخبرني منصور، أنّ جعفرا، حدّثهم قال: سألت أبا عبد اللّه عمّن كسر الطّنبور، والعود، والطّبل، فلم ير عليه شيئا، قيل له: الدّفّ؟ فرأى أنّ الدّفّ لا يُعْرَض له، وقال: قد رُوِي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في العرس. قيل له: يكون فيه جرس؟ قال: لا.
وقد ذكر كراهية أصحاب عبد اللّه في الدّفّ، ولم يذهب إليه " انتهى. "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من الجامع للخلال" (ص58).
الخلاصة:
إذا ثبت تحريم شيء، فلا يشترط لاعتقاد حرمته أن يكون ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتلف هذا الشيء، ولم يقل بهذا أحد من أهل العلم.
بل مجرد ورود ما يدل على تحريم الشي يوجب على المسلم الانتهاء والكف عنه.
قال الله تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر (7).
وأما عدم إتلاف النبي صلى الله عليه وسلم للدف وقد ضرب بحضرته؛ فذلك بسبب أن الدف له حالات يباح استعماله فيها.
وراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (222730).
والله أعلم.