أولا:
هذه الصيغ المذكورة واردة في الذكر عند الفراغ من الطعام:
1-( الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبّنَا ).
رواه البخاري (5458): عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ [وفي رواية له: إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ] قالَ: الحديث.
2-( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ).
رواه أبو داود (3851)، وابن حبان "الاحسان" (12 / 23): عن ابْن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عَقِيلٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ، قَالَ: الحديث.
3- ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي، وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ).
رواه الإمام أحمد في "المسند" (24 / 394)، وأبو داود (4023)، والترمذي (3458)، وابن ماجه (3285): عن سَعِيد بْن أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي مَرْحُومٍ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: الحديث.
وقال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ".
وفي بعض رواته مقال ولين، وحسنه بعض أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " هذا حديث حسن، أخرجه أبو داود عن نصر بن الفرج.
والترمذي عن محمد بن إسماعيل.
كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ…
وأخرجه الحاكم من وجهين عن المقرئ.
وعليه درك في تصحيحه، لما في سهل والراوي عنه من المقال " انتهى. "نتائج الأفكار" (1 / 123).
4- ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ ).
رواه الإمام أحمد في "المسند" (17 / 375)، أبو داود (3850)، وغيرهما: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
والترمذي (3457)، وابن ماجه (3283)، وغيرهما: عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ، عَنْ مَوْلًى لِأَبِي سَعِيدٍ [وفي رواية: عَنِ ابْنِ أَخِي أَبِي سَعِيدٍ]، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَكَلَ طَعَامًا قَالَ: الحديث.
وهذا إسناد ضعيف لاضطرابه وجهالة بعض رواته.
ففي إسناد الإمام أحمد وأبي داود: إسماعيل بن رياح، وهو مجهول.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" إسماعيل بن رياح السلمي: معاصر لقتادة لا يعرف " انتهى. "المغني في الضعفاء" (1 / 80).
وفي إسناد الترمذي وابن ماجه ضعف أيضا؛ بسبب جهالة الراوي عن أبي سعيد، وكذا عدم تصريح حجاج بالسماع، وهو موصوف بالتدليس.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" سمعت أبي يقول: حجاج بن أرطأة صدوق يدلس عن الضعفاء يكتب حديثه، وإذا قال: حدثنا، فهو صالح لا يرتاب في صدقه وحفظه إذا بين السماع ... " انتهى. "الجرح والتعديل" (3 / 156).
وقال الخليلي رحمه الله تعالى:
" أبو أرطاة الحجّاج بن أرطاة قاضي البصرة: عالم ثقة كبير، ضعّفوه لتدليسه " انتهى. "الإرشاد" (1 / 195).
ثانيا:
هذه الأذكار وردت مطلقة عقب الطعام، ولم تقيّد بحال من الأحوال، أو هيئة من الهيئات، والأصل في النصوص المطلقة أن يعمل بها بإطلاقها، ولا تقيّد إلا بدليل.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" فإن ورد الخطاب مطلقا حمل على إطلاقه " انتهى. "الفقيه والمتفقه" (1 / 308).
وعلى هذا الوجه فهمها أهل العلم؛ ورأوا أن هذه الأذكار تقال إذا فرغ العبد من طعامه، من غير تقييدها بحال معين.
فبوّب البخاري على حديثه السابق بقوله: " بابُ مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ ".
وبوّب الترمذي على أحاديثه السابقة بقوله: " بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّعَامِ ".
وبوّب ابن حبان على حديث أبي أيوب بقوله: " ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّعَامِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى مَا سَوَّغَ الطَّعَامَ مِنَ الطُّرُقِ وَجَعَلَ لِنَفَاذِهِ مَخْرَجًا ".
وإنما الحكمة التي تلمَّسها أهلُ العلم في تنوع الأذكار في أمر واحد؛ هو أن كل ذكر فيه نوع من الحمد ليس في الآخر، فإن جمعها في ذكر واحد طال، وإن التزم بواحد منها دوما، فاتته فوائد الحمد في الصيغ الأخرى، وإن ناوب بينها فأتى في مرة بذكر وفي أخرى بصيغة أخرى، أدرك فوائد الحمد المنثورة في جميع هذه الأذكار، كما أن التنويع يجلب انتباه القلب، بخلاف من يلتزم صيغة واحدة دائما فيصبح اللسان ربما يتلوها لشدة الحفظ والقلب ساه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
"ما جاءت به السنة على وجوه: كالأذان والإقامة وصلاة الخوف والاستفتاح فالكلام فيه من مقامين: أحدهما في جواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة وهذا هو الصواب وهو مذهب أحمد وغيره في هذا كله".
ثم قال: "المقام الثاني وهو أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع متنوعة وإن قيل: إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أن يفعل هذا تارة وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (22/336-337).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" وأعلم أن تنوع العبادات والأذكار من نعمة الله عز وجل على الإنسان؛ وذلك لأنه يحصل بها عدة فوائد، منها:
أن تنوع العبادات يؤدي إلى استحضار الإنسان ما يقول من الذكر؛ فإن الإنسان إذا دام على ذكر واحد صار يأتي به بدون أن يحضر قلبه، فإذا تعمد وقصد تنويعها فإنه بذلك يحصل له حضور القلب.
ومن فوائد تنوع العبادات: أن الإنسان قد يختار الأسهل منها والأيسر لسبب من الأسباب، فيكون في ذلك تسهيل عليه.
ومنها: أن في كل نوع منها ما ليس في الآخر فيكون في ذلك زيادة ثناء على الله عز وجل " انتهى. "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (13 / 286).
ومع أن المناسبات التي ذكرها السائل في سؤاله لترتيب الأذكار الواردة، على أحوال معينة: ليست ظاهرة، وليس في ألفاظ هذه الأذكار، ما يساعد على ذلك التقسيم بحسب الأحوال؛ فإن الأصل الذي أشار إليه السائل ليس فيه ما ينكر، وليس هو من بدع الأفعال ولا الأقوال؛ أن يراعي حالا معينة، ويستحضر الذي يلائمها. كما لو كان جائعا، وليس عنده طعام، أو مال، فدعاه أحد، أو أهداه؛ فلا حرج عليه أن يتخير الذكر الذي يقول: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي، وَلَا قُوَّةٍ ).
ولا حرج عليه إن رأى، أو تذكر حال مريض، يشق عليه بلع الطعام، أو همضمه، أو إخراجه؛ فلا حرج عليه أن يتخير أن يقول: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ).
وهكذا الأمر، مع أن السنة لم تقيد شيئا من ذلك بحال، سوى حمد الله على الطعام والشراب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، بعد تقرير ما ذكره في العبادات الواردة على وجوه متنوعة، وقد نقلنا شيئا منه قبل قليل:
"قد يحتاج إلى المفضول حيث لا يغني الفاضل. كما يحتاج الإنسان إلى رجله حيث لا تغني عنها عينه. وكذلك المخلوقات لكل مخلوق حكمة خلق لأجلها فكذلك العبادات. فجميع ما شرعه الرسول له حكمة ومقصود ينتفع به [في] مقصوده فلا يهمل ما شرعه من المستحبات.
وإن قيل إن جنس غيره أفضل، فهو في زمانه ومكانه أفضل من غيره.
والصلوات التي كان يدعو فيها بهذا الاستفتاح: كان دعاؤه فيها بهذا الاستفتاح أفضل من غيره، وهو دعاؤه بالطهارة والتنقية من الذنوب التبعيد عنها من جنس الاستغفار في السحر، وكاستغفاره عقب الصلاة وقد كان يدعو بمثل هذا الدعاء في آخر قيام الاعتدال بعد التحميد فكان يفتتح به القيام تارة ويختم به القيام أيضا.
وقد روي عنه في الاستفتاح أنواع، وعامتها في قيام الليل، كما ذكر ذلك أحمد. ويستحب للمصلي بالليل أن يستفتح بها كلها، وهذا أفضل من أن يداوم على نوع ويهجر غيره، فإن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن يقال أيضا: هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، ومن الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول أنفع. كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع؛ فالعبادة التي ينتفع بها، فيحضر لها قلبه، ويرغب فيها، ويحبها: أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة، وعدم الرغبة.
كالغذاء الذي يشتهيه الإنسان وهو جائع: هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه، أو يأكله وهو غير جائع.
فكذلك يقال هنا: قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع، لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر.
ونحن إذا قلنا: التنوع في هذه الأذكار أفضل؛ فهو أيضا تفضيل لجنس التنوع. والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس، لمناسبته له، كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال.
فالمفضول: تارة يكون أفضل مطلقا في حق جميع الناس، كما تقدم.
وقد يكون أفضل لبعض الناس، لأن انتفاعه به أتم. وهذه حال أكثر الناس قد ينتفعون بالمفضول، لمناسبته لأحوالهم الناقصة، ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (22/ 348).
والله أعلم.